... مِن أكثر المسلسلات التلفزيونية التي أثّرت في حياتي ، وشاهدتُها في طفولتي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي بالأبيض والأسود ، كان المسلسل المصري (جمال الدين الأفغاني) ، حيث كان الممثّلان الأساسيان هما (محمود ياسين) والرّاحل (توفيق الدّقن) ، كما لا أنسى رفيق الشيخ الأفغاني ، الرّجل المرح (عارف أبو تراب).
كنّا ننتظر حلقات المسلسل بشغفٍ وشوقٍِ كبيرين وكنّا نتفاعل معها نفسيّا وعاطفيّا رغم أنّنا كنّا أطفالاً صغارًا ، فقد كان يخيّم الصّمت المُطبِق في وقت عرض المسلسل على السّاعة السّابعة مساءً ، وكنّا مُعجَبينَ ومُندهِشين ومُنجذِبين بقوّة إلى شخصيّة العلاّمة جمال الدّين الأفغاني ، وكثيرا ما كنّا نردّد العبارات والجمل التي يتلفّظ بها ونقلّد الحوار الفصيح الذي يدور بينه وبين عدوّه اللّدود الذي يظهر في كلّ بلدِ وبصورةِ لا تختلف كثيرًا عن صوره الأخرى ... لا تزال رنّة صوت الفنّان (توفيق الدّقن) يخاطب الأستاذ جمال الدّين بصوته المرتعش وهو يشير إليه بإصبعيه : " أنا أعرف أنّ شرابك المفضّل هو الشّاي يا سيّد جمال الدّين" ، كما لا أنسى أبدًا تلك المناجاة الفلسفية التي يناجي بها الأستاذ نفسه : " أيّها الدّرويش الفاني ممّ تخشى ؟ اذهب وشأنك ، ولا تخف من السّلطان ، ولا تخشى الشّيطان ، كن فيلسوفًا يرى الدنيا أُلعُوبة ، ولا تكن صبيًّا هَلُوعًا ، إنّه سِيَانِ عندي ، طال العمر أو قَصُر ، فإنّ هدفي أن أبلُغَ الغاية ، وحينئذِ أقول : فُزتُ وربّ الكعبة " ... كما لا تزال كلماتُ الأستاذ الخالدة في بداية الجينيريك المكتوبةُ بالأبيض على خلفيّة سوداء مُنطبِعَةً في ذهني ، لم أخرم منها حرفًا منذ ذلك التاريخ : "إنّ الأزمة تَلِدُ الهِمّة ،ولا يتّسعُ الأمر إلاّ إذا ضاق ، ولا يظهر فضل الفجر إلاّ بعد الظلام الحالك ، أوشك فجرُ الشّرق أن ينبثق فقد ادلهَمَّتْ فيه الخُطوب ، وليس بعد هذا الضيق إلاّ الفرج ، سنّة الله في خلقه ... جمال الدّين الحسينيّ الأفغاني".
لقد كان لذلك المسلسل الفضلُ الكبير في تشكيل عواطف ومعارف جيلنا حول تلك الشخصيّة الإصلاحية الهامّة وتقديرها ورفع شأنها في عقولنا وقلوبنا ، ومن وراء ذلك جاء التقدير والحبّ والإجلال لكلّ رجال الدّين والعلم والإصلاح في الأمّة إلى يومنا هذا ....
|
|