خطـــاب تخـــرّج وتدريـــس ( كتبه وألقاه العلاّمة الحاج بن السنوسي بن عبد الرّحمن على مسامع الطلبة الدّارسين والمتخرّجين وبحضور مشايخ الزاوية الهاملية )
=====================================================
--------------------------------------------------------
شكــــــــــر خــــاصّ للأخ الكريم : فـــــــؤاد قاسمــــــي
--------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا. أيّها السادة، أيّها الطلبة؛ الوافدون على زاويتنا الهامليّة القاسميّة، من أنحاء مختلفة. والواقفون بهاته الأعتاب الشريفة، معاهد العلم والعمل، والآداب والفضل، بقصد تعلّة العلم الشريف، الذي به قوام الدين والدنيا، فنعم القصد، وحبّذا المقصود. وإنّني أهنّئكم بمناسبة أوّل جلوس الشيخين، السيّد الخليل بن الشيخ سيّدي مصطفى، والسيّد أحمد بن الشيخ ابن عزّوز، على منصّة التدريس، لإقراء مختصر أبي الضياء سيّدي خليل. جمّل الله بوجودهما الملّة، وكثّر في الفئة القاسميّة من أمثالهما. ففي الأذكياء قلّة نائبين في الدرس عن شيخهما المعزوز، السيّد ابن عزّوز، فقد أثمر غرسه، ونتج بذره، فأحسن بالشيخ، وأعزز بالتلميذين. فالحمد للّه على ما أنعم به على أبناء الأسرة الشريفة، بحيث لا يخلو زمان من وجود من يقوم بوظيفة التدريس للعلوم، فالعلم عليهم سهل، إلاّ من أبى، بسبب الأكلة التي أهديت لجدّهم من الأولياء بجبل ونشريس، كما أشار إليه الشيخ المكّي بن مصطفى بن عزّوز في قوله:
تلاقى بونشريس كُـمَّلُ أوليــــــــا **فأهــــــدوا له بالعطف أكلاً حوى سرًّا
وقالوا اعْطِهِ من شئت من نسلكم لكي**يفوز بنوه بالصلاح الى الأخرى
ضمانَ فحولٍ فاسْتَبـــــدَّ بربحـــــه **رُبَيْحُ ابنُه فالبسل شمسٌ قفت فجرًا
والصبغة القاسميّة لا تكون ولا تظهر إلاّ على من له آثار مخلّدة في العلم، كما كان عليه سلفهم الصالح، فالعلم شرف الأرواح، والنسب شرف الأشباح. وفرق بين الأرواح الباقية، والأشباح الفانية، وإن كان لشرف النسب مزيّته. وقد كان الشيخ سيّدي محمّد رضي الله عنه، كثيرًا ما ينشد في الدرس منظومة شيخ مشايخ الخلوتيّة، سيّدي مصطفى البكريّ، التي ذكرها في شرح الصلوات المشيشيّة، عند قول الشيخ : اللهم ألحقني بنسبه، وعرّفني بحسبه. قصد بإنشاده تحريض الأشراف على العلم، وهي منظومة عجيبة، أوّلها:
إذا انتسب الأشراف نحو جدودهــم ** وقــــد قنعوا من ذاك بالنسب الأدنى
فخذ نسب التقوى لتقوى بأخذه ** على نيل ما ترجوه في المنزل الأسنى
ولا تغترر بما الجــــدود أتــــت بــــه ** ولكن لهم كن تابعًا تـــدرك المـــــــنى
ويقول لهم: الحازم يشرف بالاكتساب لا بالانتساب، ويسود بنفسه لا بقومه، كهذا الذي قال فيه النابغة:
نفس عصام سوّدت عصامًا * وعلّمته الكرّ والإقداما * وجعلته ملكًا هماما *
وقد كان حاجب النعمان بن المنذر.
وأنتم أيّها الطلبة، يجب عليكم قبل كلّ شيء، تقوى الله تعالى؛ ففيها إعانة عظيمة لنيل العلم الشريف، كما قال تعالى: (( واتّقوا الله، ويعلّمكم الله )) وقد قال الإمام الشافعيّ رضي الله عنه:
شكوت إلى وكيع سوء فهمي ** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأعلمني بأنّ العلــــــــــم نـــور ** ونــور الله لا يعــــطى لعـــاص
ثمّ يجب عليكم الأدب مع العلم ومشايخه، وكتب العلم، فقد قالوا: لا يضرب الكتاب لنفض ما تعلّق به من الغبار، بل يمسح بالخرقة. ثمّ الأدب في حضور الدرس، يكون على طهارة، غير لابس لنعله، كما يفعله المعلّمون العصريّون، يعلّمون بنعالهم هم وتلامذتهم. ففي ذلك إهانة للعلم. ثمّ عليكم بالحرص والاجتهاد، وترك الكسل، فمن جدَّ وجد :
خليليّ لا تكسل ولا تهمل الدرسا ** ولا تعطِ طوعًا من بطالتها النفسا
ولا تترك التكرار فيمــــــــا حفظتــــه ** فمن ترك التكرار لا بدّ أن ينسى
وقال الزمخشريّ :
سهري لتحصيــل العلوم ألذُّ لي ** من لثــــمِ غانيةٍ وطول عِناقِ
وألذُّ من نقـــــر الفتـــاةِ لعودها ** نقري لنَفْضِ الرمل عن أوراقي
وتمايُلي طربًا بحَلِّ عويصة ** أشهى لنفسي من مُدامة ساقي
وقال بعضهم على لسان المدوّنة:
قالت مسائلُ سحنون ٍ لقارئها ** بالكَدِّ يُدرَكُ مِنَّا كلُّ ما اسْتَتَرَا
لا يُدركُ العلمَ بطّالٌ ولا كَسِــلٌ ** ولا مَلُولٌ ولا من يألفُ البَشَرَا
وقالوا: لا يُدرك العلم إلاّ من عطّل دكّانَه، وخرّب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أوليائه فلم يحضر جنازته. وقالوا: لولا أولاد الفقراء لضاع العلم. وعليكم بحفظ ما تكتبون، ولا تتّكلوا على الأوراق، فآفات ضياعها كثيرة:
فالنار تحرقها والفأر يخرقها ** والماء يغرقها واللصّ يسرقها
وقالوا:
تكتبُ العلمَ وتلقي في سَفَطْ ** ثمّ لا تحفظُ لا تُفلح قَطْ
إنّما يُفلــــــح مـــــن يحفظــــه ** بعد فهمٍ وتَوَقٍ من غلطْ
وقالوا: العلم ما عبر معك الوادي، وحضر معك في النادي... وقال أحدهم في نصيحة لولده: بُنيّ اجتهد، واقرأ، وزاحم، ونافس، ولا تتجمّع في رحاب المدارس. وهي نصيحة مفيدة. وعار كبير على إنسان يخرج من أهله، مهاجرًا في طلب العلم، ويعود فارغ الوطاب، خاوي الجراب، هكذا يكون من يطلب أعزّ علم، خصوصًا مختصر الشيخ خليل، فإنّه كتاب معتبر، صعب الاختصار، اختصر فيه جميع الأمّهات، لابن حاجب وغير ذلك ... ومسائله مائتا ألف، مائة ألف في المنطوق، ومثلها في المفهوم، كما قال بعضهم:
يا قارئًا مختصر الخليـــل ** لقد حويت العلــــم يا خليـــــــلي
حَصِّله حفظًا واصرف الهمّةَ لَهْ ** فقد حوى مائة ألف مسألَــهْ
نصّـًا ومثلُها من المفهومِ ** فإن شَكَكْتَ اعدُده في المرسومِ
وأبوابه وفصوله خمسة وعشرون ومائة، منها واحد وستّون بابًا، والباقي فصول. وكتاب الصلاة مرتّبٌ على حديث، بُنِيَ الإسلام على خمس وهوأقلّ الكتب أبوابًا. فيه ستّة أبواب: باب الطهارة ــ باب الصلاة ــ باب الزكاة ــ باب رمضان ــ باب الاعتكاف ــ باب الحجّ. وفصوله: ثلاثة وثلاثون. وكلّ ما فيه فرض عين على كلّ مكلّف؛ ذكر وأنثى، حرّ وعبد. فيجب على كلّ واحد معرفة ما فيه من المسائل والمقاصد. وغير كتاب الصلاة، قيل تعلّمه فرض عين، وقيل فرض كفاية. والفقه هو الأساس، وبه يعرف الانسان كيف يعبد ربّه، وهو أوّل ما نهضت إليه الهمم العليّة، وعكفت على تحصيله النفوس الزكيّة. قال الشاعر:
تفقّه فإنّ الفقهَ زينٌ لأهلِهِ ** وفخرٌ وعنوانٌ لكـــــــلِّ المحامــدِ
وإنّ فقيهًا واحدًا متورِّعًا ** أشدُّ على الشيطان من ألف عابدِ
وقال ابن الوردي: واحتفل للفقه في الدين ولا * تشتغل عنه بمال وخَوَلْ
وقيل : ولا يكن همّك في الطعام * والشرب تلك شيمة الطَّغام
وقيل : يريدون إدراك المعالي رخيصة * ولابُدَّ دون الشهد من إبَرِ النحل
وقال ابن القاسم: أفضى بمالك طلب العلم إلى أن أزال خشب سقف بيته فباعه.
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ** ومــــن يخطب الحسناء يصبر على البذلِ
ومن لم يُذِلَّ النفسَ في طلب العُلا ** يسيرًا يَــعِشْ دهــرًا طــويلاً أخـا ذُلِّ
وطلبة الزاوية القاسميّة، بفضل مؤسّسها وكرم مشايخها بعده، هم في غاية الراحة، مع العيش الوافي، والمسكن الضافي، خصوصًا في ولاية الأستاذ الحالي، الشيخ سيّدي مصطفى، فالطلبة في وقته لا تنالهم مشقّة، ولا يُكلّفون بشيء، وحيث كانت هذه حالهم، فمن رجع منهم خائبًا، فلا يلومنَّ إلاّ نفسَه، ويلحقه كلّ عار، ويندم حيث لا ينفعه الندم. أسأل الله التوفيق للجميع، بجاه أفضل شفيع.