بقلم : الأستاذة السعدية حفيظيفي السادس من أفريل (سنة ألفين وتسعة -06 أفريل 2009م) تحل ذكرى وفاة المرحوم الإنسان والشاعر الفذ سي بلقاسم بن محمد الصديق بن صالح ، وفي مثل هذا اليوم: السابع من أفريل 2009 ووري جثمانه الثرى رحمه الله وطيب ثراه.
وبهذه المناسبة ننشر على صفحتنا مساهمة من السيدة السعدية حفيظي تروي فيها ماعرفته عن الفقيد أثناء معايشتها له لعدة سنوات بصفتها زوجة ابنه الأكبر عرفانا منها بأفضاله وإبرازا لقيمته الحقيقية. المساهمة هي الآتي نصها :
لمحات من حياة : بن صالح بلقاسم بن محمد الصديق
الإنسان، الشاعر والفنان ... كما عرفته .
بادئ ذي بدء، أحمد الله وأشكره لأنه أتاح لي الفرصة فتعرفت عن قرب على السيد: بلقاسم بن محمد الصديق بن صالح، لمدة قاربت ست سنوات، عشت معه وتعلمت منه الكثير فكان بالنسبة لي مدرسة جليلة.
وإنه لمن دواعي سعادتي أن أكتب عن شخصيته التي شدت انتباهي بتميزها المطلق عن باقي الناس الذين عرفتهم، شخصية مكافحة، شخصية رغم قساوة الحياة شقت طريقها بنجاح مبهر.
سي بلقاسم (كما يدعى اختصارا من كل الذين عرفوه) من مواليد سنة 1928 بقرية الديس، ابن العالم محمد الصديق بن أحمد، والوالدة الفاضلة كلتوم بنت عبد القادر، نشأ في وسط عائلي يجمع بين التدين والثقافة فقد كان والده حافظا دارسا لكتاب الله وفقيه عصره مدرسا أخذ عنه الكثيرون. فتأثر بهذا المناخ الروحاني واتجه إلى حفظ القرآن في سن مبكرة إلا أن القدر الإلهي شاء بأن اختطفت يد المنون الوالد في عام 1942 الذي انتشر به وباء التيفوس بقصر الشلالة ودفن هناك، تاركا ولده الذي لم يتجاوز الأربعة عشر ربيعا ومعه والدته وإخوته الصغار يكابد صروف الدهر ومشاق الحياة.
لكن الله حباه إرادة قوية ومنحه طاقات ومواهب لاحصر لها، فكان يتعلم الحِرَفَ بالملاحظة الدقيقة للحرفيين والصناع في زمانه وهو مختبئ في زاوية من الشارع لأن هؤلاء كانوا ينهرونه ولا يتركون له الفرصة للوقوف أمامهم لتعلم قواعد الحرفة. وهكذا تعلم الخياطة ومارسها طوال حياته باحترافية عالية وتعلم كذلك الحدادة وتصليح الأحذية وحرفة خياطة سروج الخيل كما أتقن لاحقا تصليح الأعطاب الميكانيكية للآلات التي تقع بين يديه وكان يتمتع بموهبة خلاقة قادته إلى درجة الابتكار الذي ميزه عن جميع أقرانه حتى أصبحت إنجازاته حديث العام والخاص.
وأتقن أيضا حرفة البناء التي امتاز بها أبناء سيدي ابراهيم، حتى أنه عندما هاجر إلى فرنسا سنة 1947 تلقى تكوينا في اختصاص نحت الحجر وكان مرشحا لنيل الجائزة الأولى لإنجازه منحوته مزهرية على الصخر بهرت لجنة التحكيم آنذاك إلا أن خلفية الفكر الاستعماري جعلت اللجنة تقدم عليه أحد الفرنسيين ومنحته المرتبة الثانية لا لشيئ إلا لكونه جزائريا.
كان مجلا للعلماء وعلى رأسهم الشيخ محمد بن عبد الرحمان الديسي وابنه سيدي أحمد بن بوداود والشيخ المازري والحفناوي والشيخ بن بلقاسم وغيرهم من علماء ومشايخ أولاد سيدي ابراهيم الأفاضل، فسمى ابنه الأكبر: محمد بن عبد الرحمان تيمنا بالعلامة الديسي رحمه الله. ثم إنه كان يحتفظ بنعلي الديسي في خزانته الخاصة يستخرجهما في كل مرة ويقبلهما إجلالا لصاحبهما والتماسا للخير والبركة.
وفي حياته المهنية عمل في سلك العدالة بكتابة الضبط منذ فجر الاستقلال حتى مطلع السبعينيات. ولا تزال دفاتره تشهد باجتهاده وهو يتلقى دروس الحقوق وعلم المواريث، واشتغل بعد ذلك موظفا بالبلدية فكاتبا عموميا في نهاية مساره المهني وكان من أوائل من مارس هذه الوظيفة بمدينة بوسعادة فأقبل عليه الناس من كل حدب وصوب لما لمسوا فيه من كفاءة وصدق ونصح وتوجيه حتى توقف عن نشاطه في منتصف الثمانينيات.
أما الحديث عنه كفنان تشكيلي فهو حديث شيق وقد يستهلك صفحات وصفحات لإيفائه حقه من الشرح والتفصيل. فقد تميز منذ صغره بموهبة وصلت حد النبوغ في الرسم بالألوان الزيتية وفي بلاد المهجر، حين كان عاملا بأحد المصانع شارك في معرض للرسم بلوحة زيتية تصور مشهدا للحياة في الريف جذبت إليها كل الأنظار وحازت الإعجاب الشديد. وفي بيته بالديس تفنن بالرسم على جدران الغرف فرسم بالألوان الزيتية طائر الطاووس، ومنظر طبيعة صامتة وكان شغوفا بهذا الفن فعلم أصوله لأبنائه وحببه إلى كل اهتم به من معارفه.
وأما الحديث عنه كشاعر شعبي فمهما كان الوصف فإنه يبقى دون مستوى موهبته الفذة في هذا المجال الذي ألف فيه فأبدع وذاع صيته في كل مكان وردد الناس قصائده العصماء في كل المناسبات وحفظوها وتعلقوا بما فيها من إبداع وبلاغة ومعان سامية.
كتب الشعر في مختلف الأغراض: مديح النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر مناقب أولياء الله الصالحين، التوحيد، الفضائل، الوصف، المزح والفكاهة، الرثاء، والهجاء أيضا.. وكان يطلب منه في كل الجلسات أن يصطحب قصائده ليعطر المجالس بقراءتها فيمتع ويسري عن النفوس، فتراه منكبا على أوراقه يختار منها ما يناسب أجواء كل مجلس. وقد امتاز شعره بالمتانة والوضوح وقوة التعبير والبلاغة الشديدة.
ولما رحل عن هذه الدنيا خلّف تراثا شريا زاخرا متنوعا يعد منهلا لكل عشاق الشعر الملحون مكتوبة بخط يده .. ومن أشهر قصائده : لعديليات الأولى والثانية، بسم الله نبني الساس، يا روحي نادي، ياغادي للشرق إذا انت حواس، يا عاشق مدايح النوراني، بسم الله في القول نبدا وغيرها..
مهما حاولت أن أكتب عن هذه الشخصية فإني لا أفيها حقها لأن هذا الرجل له من الحكمة والخبرة في الحياة ما يملأ مجلدات. فلسفته في الحياة صائبة وصائبة جدا.. كل كلمة كنت أسمعها منه لها مغزى وفائدة.. ولطالما أهمه ومزق قلبه وضع العرب والمسلمين، كان يبكي على العراق وفلسطين. وكان كل دعائه النصر المبين للإسلام والمسلمين.
وماذا عساني أقول في رجل زاهد في هذه الدنيا شديد التضرع لله تعالى جل وقته، رافعا يديه إلى السماء؟
وماذا أقول في أب سهر على أولاده، رباهم وعلمهم، فقدم للمجتمع المدير والمهندس والطبيب والأستاذ؟ سوى الدعاء له بالرحمة والمغفرة والثواب.
توفي السيد بن صالح بلقاسم بن محمد الصديق في السابع من شهر أفريل سنة ألفين وتسعة عن عمر ناهز الثمانين عاما إثر مرض عضال ألزمه الفراش لعدة شهور. وإن رحل جسده الطاهر فإن روحه الطيبة لا تزال حاضرة معنا في كل وقت وفي كل مناسبة. ولا تزال آثاره باقية نلمسها في كل مكان تعيد إلى أذهاننا مشاهد ذكريات ومواقف لا تنسى.
|
|