... من بين ما تربّينا عليه في أسرنا العريقة ، وغُرِس في ثقافتنا منذ الطفولة ، ولا يزال يلازمنا - ولله الحمد - عادة
(المعروف) ... لا أتكلّم هنا عمّا يتكرّم به أهلنا على الجيران و ذوي الحاجات وعابري السبيل والضيوف ، بل أقصد عادة ثابتة تعوّدنا عليها وأصبحت عُرفًا عامّا ، فلازلت أذكر جدّتي لوالدي - رحمة الله عليها - وهي تستيقظ يوم الجمعة باكرا فتخبز كسرة
(لمذكّر) وربّما خلطتها بعجينة التمر ، ثمّ توقظنا قبل أن تطلع الشمس وترسلنا إلى بيوت الجيران البعيدة حاملين لكلّ بيت نصيبه من ذلك الخبز ... كان ذلك ما نسمّيه "المعروف" أو معروف يوم الجمعة ، وكان الجيران كلّهم يفعلون مثل هذا فكنّا نتذوّق قسطا من خبز كلّ بيت من بيوت القرية ... ولم تنقطع هذه العادة سنين طويلة حتى أنّ والدتي -رعاها الله- ورثتها عن حماتها (جدّتي) التي كانت أمّا أخرى لها ، وهي لا تزال تحافظ عليها إلى أيّامنا هذه ، لكنّ المُلَاحَظ أنّ هذه العادة الحميدة ومثيلاتها بدأت في الإنحسار بشكل سريع ، وحدث شرخ واضح في توارثها من الأمّ إلى ابنتها أو من الحماة إلى كنّتها واختفى حتى ما نصطلح عليه بــ
(الذواقة) بين الجيران المتلاصقين ، بل بين بيوت الأسرة الواحدة أحيانا ، وسادت موجة أثرة غريبة عن ديننا وأصلنا وثقافتنا وقيم مجتمعنا ... حتى أصبح يمرّ على أحدنا أشهرٌ لا يذوق فيها طعاماً من جاره ، وربّما بات أحدنا جوعانا من مرضٍ أو شُغلٍ ولا يأبه له جاره ...
تكلّمت ُ مع صديق عزيز حول هذا الموضوع فقاسمني هذا الهمّ ، وقال لي أنّه مرّة طالب زوجته بإحياء عادة المعروف - عسى الله أن يجازيهما عنه خيرا أو يدفع به عنهما شرّا - فضحكت عليه زوجته وكأنّها سخرت منه وقالت : " يا رجل أيّ معروف تتكلّم عنه ؟ من بقي يتحدّث عن هذه الأمور في مثل هذه الأيّام ؟ كلّ واحد راه في همّو ... اللي يتفكرنا نتفكروه واللي ينسانا ننساوه !! ".
تأمّلت قليلا حال أسلافنا وآبائنا وحالنا ثمّ قارنت مقارنة سريعة فعرفت أسباب السعادة والرضى والألفة التي تنعّم بها هؤلاء وأسباب التعاسة والسخط والقطيعة التي تملأ أيامنا ... الله المستعان.
|
|