من أسرار الجمال في لغتنا العربية التعبير بالمفرد عن الجمع وبالجمع عن المفرد لغرض بلاغي معين أو إبداع تعبيري ما، فيكون وقوعه في الكلام علامة على ذوق لغوي مرهف، وقدرة على مغايرة المألوف ، والسير في درب غير مطروقة . يقول مجنون ليلى : ومما شجاني أنها يوم ودعت | تولت وماء العين في الجفن حائر |
فلما أعادت من بعيد بنظرة | إلى التفاتا ، أسلمته المحاجر |
فهو قد أفرد العين والجفن، وجمع المحاجر. وفى إفراد العين والأذن يقول بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة | والأذن تعشق قبل العين أحيانا |
والعرب تقول "العين" وتريد "العينين" في مثل قولهم، أقر الله عينك.
ومحجر العين هو ما دار بها . وبدا من البرقع لمن تستر وجهها وتكشف عن عينيها، وجمعه : محاجر وللإنسان محجران ، لكن مليحا الهذلي يقول :
وشمرت الجمال بكل خود | يفيض على محاجرها العبير |
ذلك قالوا: هي حسنة الوجنات، مع أن المرء ليس له إلا وجنتان اثنتان، والوجنة: ما ارتفع من الخدين .
قالوا عن الخطيب المفوه : هو واسع الأشداق ، مع أن للمرء شدقا واحدا ، يقول الشاعر في ذم خطيب يتشادق أو يتشدق - لأنه لم يوهب اتساع الفم ورحابة الشدق- :
تشادق حتى مال بالقول شدقه | وكل خطيب - لا أبالك - أشدق |
يقولون : فلان راسخ القدم في العلم، بدلا من قولهم: راسخ القدمين وفلان قام على ساقه وحسر عن يده، بمعنى استعد وشمر للأمر وتهيأ، بدلا من قولهم: قام على ساقيه وحسر عن يديه .
يقول قائلهم: أعرت الأمر أذنا صاغية ، وأرهفت أذني ورأيته رأي العين .
كلها بالإفراد بدلا من التثنية .
ويستعملون المفرد بدلا من الجمع، فيقولون: باتوا سامرا، أي متسامرين ويقول المتنبي :
قليل عائدي، سقم فؤادي | كثير حاسدي، صعب مرامي |
بدلا من القول المألوف: قليل عوادي وكثير حسادي، ويستعملون الجمع بدلا من المثنى ، في مثل قولهم : ذهبت مشياً على الأقدام : أي على القدمين . وفلان شديد المناكب : أي شديد المنكبين وقول الشاعر:
إنما قد وضعت كفي لأدري | أين حلت سهام تلك العيون |
يقصد سهام تينك العينين. ويقول ابن النبيه المصري في وصف المحبوب:
سود سوالفه، لعس مراشفه | نقش نواظره، خرس أساوره |
فقد استعمل ابن النبيه: سوالفه ومراشفه ونواظره وأساوره، وليس للمحبوب إلا سالفان ومرشفان وناظران وسواران . وقد يستعمل بعضهم الكلمة المفردة للتعبير عن الواحد وعن الجمع، وعن المؤنث في مثل قولهم : هو صديق، وهي صديق، وهم صديق وهن صديق . فيكون التعبير أوفر حظا من البلاغة والجمال.
|
|