أنهى " سامي " امتحان السنة الأولىالمتوسطة بتفوق .. وقبل أن يعرف نتيجة امتحانه سأل والده قائلاً :
ما هي الهدية التي ستهديني إياها إذا نجحت هذاالعام ؟"..
قال والدة بسعادة : عندما تحضر الشهادة وتكونناجحاً سأوافق على سفرك مع خالك إلى الحبشة لتقضي إجازة الصيف هناك ..
لقد كان سامي أكبر الأولاد .. وقد أنجبته أمهبعد طول انتظار.. فنشأ بين والديه حبيباً مدللاً .. الجميع يسعون لإسعاده وتحقيقمطالبه وإدخال السرور على نفسه ..
لم ينم سامي تلك الليلة من الفرحة فقد كانتالأحلام الوردية تداعب مخيلته وفكره الطفولي البريء .. كيف لا ؟" .. وهوسيسافر لأول مرة إلى الحبشة وسيقضي فيها ثلاثة أشهر هي فترة الإجازة المدرسية .. وسيتمتعخلالها بكل جديد ..
وفي صباح اليوم الثالث لانتهاء أعمال الامتحانات.. خرج سامي بصحبة والده إلى المدرسة ليحضر الشهادة ..
غاب" سامي " داخل المدرسة دقائق .. بينماكان والده ينتظره في السيارة ..ثم عاد وهو يحمل الشهادة في يده .. وعلامات البشرتنطق من وجهه البريء .. وهو يهتف قائلاً : أبي " أبشرك لقد أخذت الترتيبالثاني على زملائي ..
ابتسامة عريضة سكنت على محيا والده .. وبداالفرح جلياً في عينيه .. فحضنه الأب بفخر وفرح شديد وهو يقول :
ألف ألف مبارك يا سامي "".. بل مليونمبارك يا سندي ".. الحمد لله على توفيقه لك ..
وحان موعد السفر .. ودع سامي والديه وهو في غايةالزهو والسعادة .. وفي الطائرة التي ركبها سامي لأول مرة رأى علما جديداً .. ومتعةلم يتذوقها من قبل .. متعة فيها خليط من الخوف والبهجة معاً خصوصاً عندما سمع هديرالطائرة وهي تقلع عن أرض المطار لتحلق في الفضاء الواسع
..لقد كان كل شيء يشاهده ويسمعه جديداً بالنسبة له .. وشيئاً غريباً لم يألفه من قبل ..
وفي الحبشة رأى "سامي " بصحبة خالهعالماً جديداً آخر .. ومر هناك بعدة تجارب مثيرة .. وشاهد أشياء لم يشاهدها من قبل ..
ولكنه كان يلاحظ بين الفترة وأخرى .. وفي أوقاتمعينة أن خاله تنتابه حالة غريبة .. يضعف فيها جسده وتوازنه أحياناً .. يراهسعيداً ضاحكاً أحياناً .. ويراه في أحيان أخرى يتمتم بكلمات غير مفهومة "..
وتوصل سامي إلى السر في هذه التصرفات الغريبة ..إن خاله مدمن على شرب الخمر "..
ونمت في نفس سامي "غريزة "حب التقليد ".. ثم تحولت إلى رغبة في التجربة الفعلية .. فكان يحدث نفسه قائلاً :سأفعل مثلهلأرى ما يحدث لي ؟" وبم يحس ؟" وكيف يكون سعيداً ؟"..
وشرب سامي الخمرة لأول مرة .. في البداية لمتعجبه .. ولكن رؤيته لخاله وحب التقليد الأعمى دفعاه إلى أن يجربها مرة وثنتينوثلاث حتى تعود عليها .. وأصبح مدمناً لها وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره ..
وانتهت فترة الإجازة وعاد سامي بصحبة خاله إلىجدة .. وكان تفكيره منصباً على كيفية الحصول على الخمر والتمكن من تناوله .. ولكنهلم يستطع الحصول عليه بسهولة .. فقرر في النهاية أن الامتناع عنه نهائياً هو الحلالوحيد للمحافظة على نفسه ومستقبله فهو ما يزال طفلاً .. كما أنه فعل مشين حرمهالله ووضع عقابا ًصارماً لفاعله ..
وعاد سامي إلى حياته الطبيعية ونسي الخمر ..ومرتعليه ثلاث سنوات دون أن يفكر في شربه..
وفي نهاية السنة الرابعة قرر أهله السفر إلى الخارج.. لقضاء عطلة الصيف في إحدى الدول الأوربية .. وهناك في تلك الدولة .. استيقضتالرغبة الكامنة في نفسه لشرب المسكر .. وتجددت ذكريات أيام الحبشة ..فمضى الشيطانيزين له شرب الخمر .. فكان سامي ينتهز فرصة غياب أهله للخروج .. أو وقت نومهم .. ليتناولالخمر خفية ..
واستمر على تلك الحال حتى أدمن الخمر من جديد ..وأصبح لديه كالماء لا يستغني عنه..
وفي إحدى الليالي خرج "سامي " مع "فوزي " ابن خاله .. لقضاء السهرة في إحدى النوادي الليلية الأوربية .. وجلسامعا يحتسيان الخمر بعد أن أكلا ما طاب لهما من الطعام .. وهما ينصتان للموسيقىالصاخبة ..
وبينما هما على تلك الحال إذ أخرج "فوزي "من جيبه قطعة صغيرة سوداء وأخذ يستنشقها بهدوء ولذة .. وكأنه يقبل طفلاًَ رضيعاً ..وكان بين آونة وأخرى يتمايل يميناً وشمالاً ..
سأله سامي في فضول : ما هذه القطعة ؟" .. ولماذاتفعل ذلك ؟" ..
فضحك فوزي وقال : ألا تعرف ما هي ؟" إنهاالحشيشة السوداء " .. إنها قمة اللذة العارمة ..
قال سامي هل من المعقول أن هذه القطعة تفعل كلهذا ؟" ..
قال " فوزي " إن ما قلته لك هو جزء منالحقيقة .. وعليك أن تجرب حتى تعرف الحقيقة بنفسك ..خذ .. جرب ..
ومد يده إلى سامي بالحشيشة السوداء "..
تناول سامي الحشيشة وأخذ يستنشقها .. وانتقلمعها إلى عالم آخر من الزيف والوهم والضياع ..
لم يكن سامي يعلم أن هذه الحشيشة الصغيرة ستكونله بالمرصاد.. وإنها موت يطرق بابه كل يوم .. ويهدد مستقبله وصحته ..
لم تمض أيام حتى أصبح سامي مدمناً للحشيش..
فانقلبت حياته وساءت صحته واعتل فكره بسببها .. ونفدتنقوده وانتهت من أجلها ..
وعندما أنهى سامي تعليمه وحصل على الوظيفة .. بدأيشعر بكراهية للناس وحب للابتعاد عنهم .. لقد كان يشعر في قرارة نفسه أن الجميعيعرفون سره .. وأن أحدا لم يعد يثق به .. أصبح عصبي المزاج .. كثير الانطواء .. ومضتثمانية عشر عاما وهو أسير حشيشته السوداء رغم تقلبه في عدة وظائف للحصول على راتبأكبر يساعده على مصاريف الحشيش .. وكثرت مشاكله حتى مع أهله ..
وكان " سامي " يحس في قرارة نفسه أنهبحار ضائع في بحر لا ساحل له.. ولا سبيل للنجاة منه ..
عزم سامي على أن يبوح بالسر لأحد أصدقائهالأعزاء لعله يجد عنده ما يخلصه من هذا الجحيم الذي لا يطاق ..
وبالفعل ذهب إلى أحد أصدقائه القدامى استقبلهصديقه بفرح كبير وعاتبه على انقطاعه عنه ..
وأخبر سامي صديقه بكل ما جرى ويجري معه بسبب هذهالحشيشة
السامة .. وطلب منه المساعدة في التخلص من هذهالحشيشة القاتلة .. ولما انهى سامي حديثه بادره صديقه قائلاً
عندي لك ما ينسيك كل آلامك ؟" فقط عليك أنتمد يدك وتغمض عينيك وتنتظر لحظات ..
قال سامي باستغراب : ما ذا تقول ؟" .. أنافي حالة سيئة لا تستدعي المزاح و السخرية منك ..
قال الصديق أنا لا أمزح .. افعل ما قلته لكوسترى النتيجة ..
مد سامي يده وأغمض عينيه .. فتناول ذاك الصديقعضده وحقنه بحقنة .. حين فتح سامي عينيه كان صديقه ( الناصح ) قد انتهى من تفريغحقنة " الهيروين" في جسمه ..
ومع بداية حقنة الهيروين كانت بداية رحلة ألموعذاب جديدة بالنسبة لسامي .. ومن يومها أدمن " سامي " على الهيروين ولميعد يستغني عنه .. وكان حين يتركه يشعر بآلام تنخر عظامه لا سبيل إلى تحملها ..
وصرف " سامي " كل ما يصرفه علىالهيروين واستدان من أهله وأصدقائه وهم لا يعلمون عن الحقيقة شيئاً .. بل ورهنبيته ..
وعندما ساءت حالته الصحية دخل المستشفى .. وخرجمنه بعد فترة ليعود للإدمان من جديد ..
لقد دخل المستشفى أكثر من مرة ولكن دون جدوى ..
وفي ذات ليلة لم يستطع مقاومة الآلام في جسمهبسبب الحاجة إلى الهروين .. ولم يكن لديه مال ليشتري به هذا السم القاتل .. ولكنلا بد من تناول الهيروين هذه الليلة مهما كان الثمن .. وكان والده آنذاك مسافرا ً
وكانت تصرفات سامي في تلك الفترة يغلب عليهاالطابع العدواني .. الذي أفقده آدميته وإنسانيته ..
وكانت تلك الليلة الحزينة ليلة مقمرة بعض الشيء ..فخرج سامي من غرفته وقد عزم على أمر ما .. لقد عزم على سرقة شيء من مجوهرات أمهليشتري بها الهيروين .. فهو لم يعد يطيق عنه صبرا ..
تسلل سامي بهدوء إلى غرفة والدته .. فتح دولابها .. سرق بعض مجوهراتها ليبيعها ويشتري بها الهيروين ..
استيقظت الأم على صوت الدولاب .. رأت شبحاًيتحرك فصرخت بكل قوتها حرامي .. حرامي ..
اتجه ناحيتها وهو ملثم.. وأقفل فمها الطاهر بيدهالملوثة بالخطيئة .. ثم قذف بها على الأرض .. وقعت الأم على الأرض وهي مرتاعة هلعة.. وفر سامي هارباً خارج الغرفة ..
وفي تلك الأثناء خرج أخوه الأصغر على صوت أمه ..رأى شبح الحرامي فلحق به ليمسكه .. وبالفعل أمسكه ودخلا الاثنان في عراك وتدافع ..
لقد كانت اللحظات صعبة والموقف مريراً وعصبياً ..سينكشف أمر سامي لو أمسك به أخوه ..
وطعن سامي أخاه بالسكين في صدره ليتخلص منه ومنالفضيحة .. وفر هارباً بالمجوهرات ..
وكانت سيارة الشرطة تجوب الشارع في ذلك الوقت ..في دورية اعتيادية
فلا حظه الشرطي وهو يخرج من البيت مسرعاً .. يكاديسقط على الأرض وفي يده علبة كبيرة .. فظنه لصاً .. فتمت مطاردته وألقي القبض عليه ..
نقل الابن الأصغر إلى المستشفى .. ولكنه فارقالحياة وأسلم الروح إلى بارئها متأثراً بتلك الطعنات الغادرة التي تلقاها جسدهالطاهر من أقرب الناس إليه .. من أخيه الأكبر .. الذي طالما أكل معه وشرب معه وناممعه وضحك معه .. أهذا معقول ؟"
وعند فتح ملف التحقيق كانت المفاجأة المرةوالحقيقة المذهلة .. المجرم السارق القاتل هو الابن "سامي " .. والضحيةهما الأم والأخ .. والبيت المسروق هو بيتهم جميعاً ..
لم تحتمل الأم هذه المفاجاة والصدمة .. فسقطتمريضة على فراشها تذرف الدموع .. دموع الحسرة والندم والألم معا .. على ابنها "سامي " المدلل .. الذي ضاع مستقبله الدنيوي .. وأصبح في عيون الناس ابناًعاقاً ومجرماً ضائعاً ولصاً محترفاً ..
بكى سامي كثيراً .. وتألم وتحسر على ماضيه ..
لقد خسر كل شيء بسبب المخدرات ..
خسر دينه .. خسر وظيفته .. خسر صحته ..
خسر أسرته .. قتل أخاه .. خسر سمعته ..
نقل سامي إلى المستشفى للعلاج من الإدمان .. ولكنهمع ذلك سيظل متذكراً أنه قتل أخاه الأصغر .. وحطم حياته كلها بسبب المخدرات ..
فاعتبروا يا أولي الأبصار