لماذا يقتلون الحمائم ؟! بقلم:سليم عوض عيشان ( علاونه )
تاريخ النشر : 2008-06-23
القراءة : 30
كبر الخط -
صغر الخط -
الإفتراضي قصة قصيرة
بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونه )
*******************
(( لماذا يقتلون الحمائم ؟! ))
· في عصر الجاهلية .. صنعوا إلهاً من تمر .. ثم أكلوه ؟!.
· وفي عصر الحضارة .. صنعوا تمثالاً للحرية .. ثم قتلوه ؟!
______________________________________
كانت الأوامر قد صدرت بإزالة المنزل .. ومن المعروف جيداً بأن الأوامر إذا صدرت فلا بد أن تنفذ فوراً ؟؟؟ .. كانت المهلة نصف ساعة ؟؟ .. نصف ساعة فقط ؟! .. وعلى صاحب المنزل إخلاء منزله فوراً وفي خلال مدة المهلة فقط .. بلا زيادة على الإطلاق .. وقد يكون هناك نقصان ؟! .
في مثل هذه الحالة ، كان أهل الحيّ والأحياء المجاورة يتسابقون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أثاث ومحتويات أخرى للمنزل .. يسابقون الزمن ويبادرون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ؟؟؟ .. وذلك خلال الفترة الزمنية القصيرة جداً والمسموح بها ..
وهذا ما حدث ..
جارنا " الحاج عوده " كان قد وضع " تحويشة العمر " وشقاء الحياة وعرق الأولاد من نعومة أظفاره وأظفارهم .. وضع كل هذا وذاك في بناء منزله هذا والذي تكلف مبالغاً طائلة استنفذت كل ما كان قد ادخره ، واقترض الشيء الكثير الكثير من أجل الإنجاز ، وهو بعد لم يسدد ما عليه من ديون ، ولم يسعد بنعمة التمتع والاستقرار بمنزله الجديد .
كانت الطامة الكبرى عندما أعلموه منذ الصباح الباكر بأن ولده الأكبر ، والذي كان من المقرر أن يحتفل بزواجه في الأسبوع القادم ، قد استشهد ، وأن ولديه الأصغرين قد ألقي القبض عليهما ، وها هم الآن يخطروه بأن منزله سوف يهدم بعد نصف ساعة ؟! …
فوقف " الحاج عوده " بين الجموع الحاشدة مشدوهاً يسيطر عليه الذهول .
ألجمتني المفاجأة أيضاً .. فوقفت أراقب الموقف عن كثب .. أطفال .. صبية .. رجال .. نساء .. شباب .. وعجائز .. في حركة كحركة النمل أو النحل .. بل لعلها أشد من هذا وذاك .. في غدو سريع ورواح أسرع .. يدخلون المنزل ثم يخرجون وهم يحملون الأشياء والأشياء في أيديهم .. على ظهورهم .. فوق أكتافهم .. فوق رؤوسهم .. وفي أسنانهم .. وكأنهم في سباق غريب مع الزمن .. بل لعلهم كذلك .. لإخلاء المنزل مما به من متاع وأثاث وحاجيات .
لاحظني " الحاج عوده " عن بعد ، اقترب مني وكأنه يسير بقوة خفية .. نظر نحوي بعيون زائغة وفكر مشتت ، راح يتأملني وكأنه يراني للمرة الأولى ؟! ..ألقيت نحوه بنظرة سريعة ثم ارتد بصري نحو القوم الذين ما زالوا يسابقون الزمن .. يخرجون الأشياء من المنزل .
تردد عن الحديث لحظات ولحظات .. لاحظ شرودي وعدم التفاتي إليه .. فلقد كنت أعلم ما سيحدثني به سلفاً .. فلا بد أن يسرد على مسامعي قصة معاناته وتضحياته من أجل بناء البيت والذي سيهدم قبل أن يجف بناؤه .. سيخبرني كم كلفه ذلك من الجهد والعرق والمال والدم ؟؟ .. وكم هو يأوي من الأطفال والنساء والشيوخ ؟؟ .. وأنا أعرف كل هذا جيداً قبل أن يحدثني به .
تردد " الحاج عوده " للحظات أخرى قبل أن يبدأ الحديث وكأنه يدرك بأنني لا ألتفت لحديثه ، فتح الرجل فاهاً أعياه التعب والألم ، حرك لساناً عقدته المفاجأة والتمزق والمعاناة ، همهم ببضع كلمات كأنها تأتي من وراء السحاب .. أو من خلف الجبال :
- ولكن يا سيدي .. من سيطعم الحمائم ؟؟!!
لم أفهم ما يعنيه " الحاج عوده " .. فلعله بدأ في الهذيان ؟؟ .. فعن ماذا يتحدث الرجل وسط هذا الجو المشحون بالتوتر ؟؟!! .. وأي حمام ذلك الذي يعنيه الرجل ؟؟ .. .
لم ألتفت إليه ورحت أراقب صبياً صغيراً يخرج من المنزل بسرعة يحمل بين يديه كتباً وكراسات لعلها كانت كل غنيمته ؟؟ وكل ما يحتاجه ؟! .
اقترب مني العجوز " الحاج عوده " أكثر .. رفع عقيرته قليلاً معتقداً بأنني لم أسمعه في المرة السابقة ؟؟ .
- أقول لك الحمام .. الحمام يا سيدي .. ماذا سيكون مصيره ؟؟!! .
ولم ألتفت إليه .. فلقد شد انتباهي فتاة صغيرة تعدو خارجة من المنزل تحمل بين يديها شيئاً تبينت فيه بصعوبة أنها دمية رقيقة ترتدي ثوباً مزركشاً بألوان متعددة تأخذ شكلاً معيناً ورمزاً واضحاً ؟! .
دوى صوت العجوز مجلجلاً .. هدر كالطوفان :
- أقول لك الحمام .. الحمام يا سيدي .. ماذا سيكون مصيره ؟؟ .. أين سيذهب بعد أن يهدم المنزل ؟؟ .. من سيقدم له الطعام والشراب ؟؟ .. إنه لن يأكل شيئاً مطلقاً .. سيموت جوعاً وعطشاً .. لأنه تعود تناول هذه الأشياء من يدي .. من يدي أنا .
ندت عني صرخة مكتومة عندما لاحظت عن بعد امرأة تتعثر وتقع إلى الأرض تحت وطأة حملها الثقيل من الملابس والأشياء الأخرى .. عندما كانت تعدو من المنزل إلى الخارج .. تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه . .
وأتي صوت كريه عن بعد يستحث الجميع بأن الوقت قد قارب على الانتهاء ... وعليهم أن ينهوا الأمر بسرعة .. وأن يبتعدوا عن المكان حالاً .. اختلطت الأصوات اختلاطاً عجيباً لتكون في النهاية سيمفونية غريبة نشاز .. وأتاني صوت العجوز مدوياً :
- قل لي يا سيدي .. أين سيذهب الحمام بعد أن يذهب المنزل ؟؟ .. كيف سيعيش ؟؟ .. من سيطعمه ؟؟ .
وأفقت على صوت ارتطام قطعة أثاث خشبي برأسي بقوة .. فلقد كانت امرأة مسنة تحمل بعض الأثاث الثقيل وهي تئن بصمت عجيب .. تغالب ضعفها ، وحملها الثقيل .. فارتطمت بوجهي وبرأسي .. سال الدم من رأسي ووجهي ، فوجدت بأنه من الواجب عليّ أن أتنحى من الطريق جانباً لكي أفسح المجال لها ولهم .
طاردني العجوز " الحاج عودة " وانتقل في إثري إلى المكان الجديد الذي انتقلت إليه .. زفر زفرات عميقة ، تنفس طويلاً ، زمجر .. جحظ .. هدر .. ولم يبك أبداً .. تمتم :
- سيدي .. الحمام .. ماذا قلت بشأنه ؟؟!! .
طوحت ببصري حيث المنزل المكتظ بالقوم .. إلى الأشياء بين أيديهم .. إلى الصراخ .. إلى الأوامر الغريبة المتلاحقة بضرورة الانتهاء .. إلى الوجه الجامد لـ " الحاج عودة " .. وأفقت من شرودي مرة أخرى على لكزة قوية إلى خاصرتي من آلة معدنية حمقاء .. نظرت نحو المصدر فوقع بصري عليه .
كان وجهاً مطموساً .. مزيجاً من الحقد والغضب والتعنت والغرور والصلف وأشياء أخرى .. صفعني على وجهي ولم يلبث أن أتبع ذلك بركلة قوية إلى مؤخرتي .. زجرني كفحيح الأفعى بلغة لم أفهم منها حرفاً ؟؟!! .. أشار لي بيد قاتمة أن ابتعد عن المكان ، فلما لاحظ ترددي عن تنفيذ الأمر ، تطوع بذلك بأن وجه لي لكمة قوية أبعدتني عن المكان بما فيه الكفاية ؟؟؟ انكفأت على الأرض ، على وجهي .. انساب الدم من فمي ورأسي ووجهي بغزارة ..
كان بي بقايا قوة سمحت لي برفع رأسي قليلاً عن الأرض .. سرعان ما ارتطم بصري بوجه " الحاج عودة " الشامخ بكبرياء عجيب .. يجلس القرفصاء إلى جواري .. ينظر نحوي ببلاهة غريبة .. يمد يده يتحسس وجهي .. يمسح العرق .. الدموع .. الدماء .. هتف برقة :
- الحمام يا سيدي .. ماذا قلت بشأنه ؟؟ .. أين سيذهب ؟؟ من سيطعمه ؟؟ من سيرعاه ؟؟ من ؟؟ ..
نهضت بتثاقل .. سرت بعيداً عن المكان .. ارتفع الصراخ المدوي المجلجل في شتى الأرجاء وسائر الأركان .. دوى في المكان صوت كقصف الرعد أو أشد هديراً .. يصم الآذان .. وتطايرت الأشياء .
ارتفع الدخان والغبار ليملآ الجو رهبة .. ومن خلال الظلام الرهيب للدخان الكثيف والغبار المتطاير والأشياء المتناثرة .. اقترب مني شبح العجوز" الحاج عودة " يحمل بين يديه شيئاً لم أتبينه إلا بصعوبة بالغة .. مد بكلتا يديه نحوي .. رأيت الدموع في عينيه لأول مرة .. بينما كان يقدم لي الأشياء التي يحملها .. بكى بحرقة .. أنَ بألم .. هتف من بين الدموع بصوت متحشرج :
- سيدي .. انظر .. لقد ماتت الحمائم .. لقد قتلوها .. هدموا البيت وقتلوها .. يبدو بأنها لم تغادر المنزل ، لقد آثرت البقاء لتموت فيه كما عاشت فيه ؟! .. خذ يا سيدي .. خذ هذه الحمائم الصغيرة ، لا تخش شيئاً .. فهي ميتة .. مقتولة .. مقتولة ..
سيدي .. " لماذا يقتلون الحمائم ؟؟!! "
|
|