عظيم أن يولد الإنسان في بيت تقى وصلاح، وأعظم منه أن يكون البيت بيت علم وهداية، فقد كان مولده في بيت أم سلمة رضي الله عنها، إذ كانت أمه مولاة لها، ولم يكن بيت أم سلمة رضي الله عنها مولده فحسب، بل لقد كان حجرها غطاءه، وصدرها سقاءه، فأدفته بصدرها، وأرضعته لبنها، وشاء الله أن يدر له منها لبنـًا، فكان لبنـًا مباركـًا، غدى به فصيح اللسان، قوي الحجة والبيان، إن تحدث فجدير لأن يسمع له، وإن سئل فجدير بأن يجيب، إن وعظ علا صوته، وجرى دمعه، وبدا إخلاصه، فيظهر على الناس الأثر، يسبق فعله كلامه، كما يسبق ضوء الفجر وهج الشمس.
أمور كثيرة هي التي منَّ الله عليه بها فرفع بين الناس، وإن لم يكن ذا نسب رفيع ، لكنه رفعه علمه وفضله وتقاه، طلب الحكام منه النصيحة فنصحهم، والعظة فوعظهم، وأعطوه أجرًا فرده وزجرهم، فهو لا يريد من البشر أجرًا إنما كان شعاره { إن أجري إلا على الله }[هود:9]، فنعم الأجر هو، ونعم الرجل كان.
نسبه :
هو أبو سعيد، الحسن بن أبي الحسن بن يسار، كان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصاري، وكان يسار من سبي حسان، سكن المدينة، وأعتق وتزوج في خلافة عمر رضي الله عنه بأم الحسن وأسمها خيرة، كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة المخزومية .
نشأته :
ولد الحسن رحمه الله لسنتين بقيتا من خلافه عمر رضي الله عنه وذهب به إلى عمر فحنكه ، ولما علمت أم المؤمنين أم سلمة بالخبر أرسلت رسولاً ليحمل إليها الحسن ، وأمه لتقضي نفاسها في بيت أم سلمة رضي الله عنها، فلما وقعت عينها على الحسن وقع حبه في قلبها، وسمّته أم المؤمنين رضي الله عنها بالحسن، ولم تكن البشرى لتقتصر على بيت أم سلمة رضي الله عنها فحسب؛ بل عمت الفرحة دار الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه، فهو مولى أبيه .
وكان كرم الله على الحسن أن نشأ في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، وكانت أمه تتركه عند أم المؤمنين ، وتذهب لقضاء حوائجها ، فكان الحسن إذا بكى ألقمته أم المؤمنين ثديها ، فيدر عليه لبنـًا بأمر الله ، على الرغم من كبر سنها فضلا عن أنه لم يكن لها ولد وقتها ، فكانت أم سلمة رضي الله عنها أمـًا للحسن من جهتين: الأولى كونها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي أم له وللمؤمنين، والثانية كونها أمـًا له من الرضاعة .
ولم يكن الحسن رضي الله عنه قاصرًا في نشأته على بيت أم سلمة رضي الله عنها فحسب؛ بل كان يدور على بيوت أمهات المؤمنين رضي الله عنهنَّ، وكان هذا داعيـًا لأن يتخلق الغلام الصغير بأخلاق أصحاب البيوت، وكان هو يحدث عن نفسه، ويخبر بأنه كان يصول ويجول في داخل بيوتهنَّ رضي الله عنهنَّ حتى أنه كان ينال سقوف بيوتهنَّ بيديه وهو يقفز فيها قفزًا .
زهده :
عاش الحسن رضي الله عنه دنياه غير آبه بها ، غير مكترث لها ، لا يشغله زخرفها ولا يغويه مالها، فكان نعم العبد الصالح، حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، فقيهـًا زاهدًا، مشمرًا عابدًا، وفي هذا يقول: إن المؤمن يصبح حزينـًا ويمسي حزينـًا وينقلب باليقين في الحزن، ويكفيه ما يكفي العنيزة، الكف من التمر والشربة من الماء.
ولقد شهد له أهل البصرة بذلك، حدث خالد بن صفوان، وكان من فصحاء العرب، فقال لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال لي : أخبرني عن حسن البصرة ، فقال خالد : أنا خيرٌ من يخبرك عنه بعلم، فأنا جاره في بيته وجليسه في مجلسه وأعلم أهل البصرة به، إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته ، وقوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به ، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له، ولقد رأيته مستغنيـًا عن الناس زاهدًا بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه طالبين ما عنده، فقال مسلمة : حسبك يا خالد حسبك كيف يضل قوم فيهم مثل هذا ؟!!
مكانته العلمية وأسبابها :
كان رضي الله عنه جامعـًا، عالمـًا، فقيهـًا، ثقة، حجة مأمونـًا فصيحـًا، ويعد الحسن رضي الله عنه سيد أهل زمانه علمـًا وعملاً، وأشدهم فصاحة وبيانـًا، وقد برع ـ رحمه الله ـ في الوعظ والتفسير براعة لا تفاق، حتى كان فارس الميدان، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها :
نشأته في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها.
قربه من بيوت أمهات المؤمنين ، فكان ذلك داعيـًا لأن يتعلم منهنَّ .
لزومه حلقة ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ، فقد أخذ عنه الفقه والحديث والتفسير والقراءات واللغة.
ولوعه بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقد راعه فيه صلابته في الدين وإحسانه في العبادة، وزهده في الدنيا، وقوته في الفصاحة والبيان .
من لقي من الصحابة:
لقي عمران بن حصين، والمغيرة، وعبد الرحمن بن سمرة، والنعمان بن بشير، وجابر، وابن عباس، وابن سريع، وأنس، كما رأى عثمان وطلحة، وكان يحدث هو فيقول أنه أدرك سبعين بدريـًا .
ما قيل فيه :
قال أبو بردة : ما رأيت أحدًا أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
وقال أبو قتادة : ما رأيت أحدًا أشبه رأيـًا بعمر منه .
وقال قتادة : ما جمعت علم الحسن إلى علم أحد من العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه ، وما جالست فقيهـًا قط إلا رأيت فضل الحسن .
وقال الأشعث : ما لقيت أحدًا بعد الحسن إلا صغر في عيني .
وقال عطاء : ذاك إمام ضخم يقتدى به .
من كلامه رضي الله عنه :
- ابن آدم : إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك .
- فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحـًا.
- ضحك المؤمن غفلة من قلبه .
وفاته رضي الله عنه :
في العام العاشر بعد المائة الأولى وفي غرة رجب ليلة الجمعة وافقت المنية الحسن رضي الله عنه، فلما شاع الخبر بين الناس ارتجت البصرة كلها رجـًا لموته رضي الله عنه، فغسل وكفن، وصلى عليه في الجامع الذي قضى عمره فيه؛ داعيـًا ومعلمـًا وواعظـًا، ثم تبع الناس جنازته بعد صلاة الجمعة، فاشتغل الناس في دفنه ولم تقم صلاة العصر في البصرة لانشغال الناس بدفنه رحم الله أبا سعيد ، وتقبله في الصالحين ، وجمعنا الله به في دار كرامته .
|
|