الصوم هذه العبادة التي يتقرب الخلق بها إلى ربهم ليس القصد منها كما يتصور البعض حرمان الناس وتعذيبهم أو التعسير عليهم، بل على العكس فإن من نعم الله على هذه الأمة وعلى الأمم السابقة أن فرض عليهم أياماً يصومونها تربية لهم، وعلواً لأنفسهم وانتزاعاً لكل ما يبعدهم عن ربهم، بل إن المولى عزَّ وجلَّ الذي فرض الصوم على الأمم السابقة خصّ أمة الإسلام بخمس خصال في شهر الصيام لم تعط لغيرهم بل إن الله جل وعلا جعل في الصوم من الحكم والأسرار والآيات ما يحتاج إلى كشفها والتوقف عندها، وهذا ما قام به فضيلة الشيخ محمد بن حسن الدريعي في محاضرة له ألقاها بجامع الأميرة موضي بنت أحمد السديري بالرياض المحاضرة تحدثت عن حكم وأسرار الصيام وأشار المحاضر فيها إلى عدد من هذه الحكم والأسرار التي تحتاج من المسلم إلى تدبرها والتوقف عندها·
وبيَّن فضيلته أن الله جلَّ وعلا عندما خلق الخلق وكلفهم بتكاليف هذا الدين القويم جعل هذه الدار الدنيوية يكرم فيها من استقام على دينه من عباده، فقد جاءت آيات الصيام هذه تؤكد على حقيقة وحدة الرسالات الإلهية في الدعوة إلى دين الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة وأخلاقاً ونظام حياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فكما أن هذه الأمة تلقت أمر الصيام من ربها، فكذلك الأمم السابقة، وفي الآية تنبيه إلى أن الخير الذي يأتي به الله عن طريق هذا الصيام يشمل عباد الله لأن فيه الرحمة لكل مؤمن يؤمن بالله وباليوم الآخر، فقد شمل الله جلّ وعلا هذه الأمة الخاتمة كما شمل الأمم السابقة المؤمنة بربها شملها بما في الصيام من خير وحكم وأسرار وفضائل تعود عليهم روحياً وبدنياً ودنيوياً وأخروياً·
ومما أشارت إليه هذه الآية من حكم وأسرار أن الله تبارك وتعالى أراد أن يبين إلى عباده عملياً كيف كان هذا الدين القويم متضمناً العقيدة والعبادة معاً، وأن العبادات هي مقتضى العقيدة، ولذلك افتتح الله آيات الصيام بالأصل الأصيل وهو الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } [البقرة: 183] ثم جاء بتشريع الصيام ليدلنا على أن الإسلام ليس مجرد عمل قلوب كما يحلو لبعض من لا خلاق لهم من المرجئة وغيرهم من طوائف الضلال ومن دعاة الضلال في هذا العصر ممن يقولون إن الإيمان يكفي، ولذلك من قرأ القرآن بتدبر وجد أنه كما خاطب الله عباده بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } [البقرة: 183] في تشريع الصيام فقد خاطبهم بهذا الخطاب في تشريع القصاص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [البقرة: 178] وخاطبهم بخطاب الإيمان في تحريم الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وخاطبهم بخطاب الإيمان في احترام حقوق المرأة وحفظ حقوقها كاملة سواء في المال أو في المعاملة أو غير ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] وخاطبهم بخطاب الإيمان في تربية الأولاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وكذلك في الوفاء بالعهود والمواثيق سواء أكانت بين المسلمين بعضهم البعض أم بين المسلمين وغيرهم إلى غير ذلك من أسرار وحكمة خطاب الإيمان للعباد·
فلا بد لنا ونحن نعيش أيام الصيام وشهر الصيام أن ندرك البعد من الربط بين الإيمان والعمل الصالح وسورة العصر تكشف النقاط عن هذه الحقيقة: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3)[العصر: 1 - 3]·
لا عسر بل يسر
أيضاً فإن آيات الصيام تنبه إلى جانب آخر من الحكم والأسرار وهو أن الله سبحانه وتعالى بيّن لعباده أن هذا الدين لا حرج فيه ولا إحراج بل ولا ثقل على المؤمنين، ولذلك نجد أن الصيام عندما فرضه الله ذكر الله جلَّ وعلا أهل الأعذار ممن يجوز لهم أن يفطروا إما فطراً دائماً كما من مرضه مزمن أو كبير في السن لا يطيق الصيام ولا يستطيعه، أو أن يفطر ويقضي عندما يتمكن من القضاء كما المريض الذي يرجى شفاؤه، وكالمسافر ومثل هؤلاء الحائض والنفساء إذا أفطروا للعذر، ونجد أن الله سبحانه وتعالى قد صرَّح بالحكمة والسر العظيم من وراء هذه الأعذار بقوله سبحانه: { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ َ} [البقرة: 185]·
لا تجاوز للحدود
وتشير آيات الصيام في القرآن إلى أن عبادات الله سبحانه وتعالى حددت الأوقات والكميات والكيفيات، فلا يجوز للإنسان أن يتجاوز حدود الله، ولذلك نقرأ في هذه الآيات القرآنية التي تناولت الصيام: { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ َ} (187) [البقرة: 187] ولننظر إلى هذا الإيضاح وهذا التحديد الذي يبين أن عباداتنا كلها سواء كانت صلاة أو صياماً أو حجاً أو زكاة قد حددت بالوقت والكيف والكم، فلا يجوز لأحد أن يزيد فيها أو ينقص، وقد ورد في السنّة النبوية إشارة إلى اليهود الذين كانوا يؤخرون الفطر عن وقته لا يفطرون في وقت الإفطار الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" أو كما قال عليه الصلاة والسلام·
بل نبّه النبي عليه الصلاة والسلام أن من هديه التعجيل في الفطر والتأخير في السحور فنحن نتعجل فضل الله ونسارع بالفوز بعطائه سبحانه وتعالى، فحينما نهانا من الأكل والشرب في نهار رمضان، وكذلك من الجماع أباحه لنا بعد الفطر فلماذا لا نفرح بهذا التشريع الحكيم؟ وقد عبر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه"·
ثم إننا عندما نتأمل فريضة الصيام نجد أن الله تعالى قد لفت أنظارنا إلى قضية اجتماعية لا نجوز أن نغفلها وهي قضية حاجة الفقراء والمحتاجين من أبناء الأمة، وتذكرهم عندما نمتنع عن الأكل والشرب فعندما تحرم نفسك بهذا الصوم المشروع من الأكل والشرب لا بد أنك تتذكر هؤلاء الفقراء·· فكأن هذه الفريضة تقول إذا كنت قد عانيت من الجوع والظمأ وقت الصيام أيها الغني فلا تنس أخاك الذي يعاني من الجوع، والناس شبعى في غير وقت الصيام فجد على أخوانك، ولا تنسهم ولذلك نجد أن الله جل وعلا فرض في الأموال فرائض ففرض زكاة·· وقد تولى الله تبارك وتعالى تقسيمها وتوزيعها بنفسه حتى لا تتلاعب بها الأهواء·· والذي يمتنع عن إخراج الزكاة توعده الله بالعذاب يوم القيامة··
الصوم تدريب على ترك المعاصي
وهناك لفتة أخرى تشير إليها فريضة الصيام وهي حجة المتكاسلين عن أداء العبادات والقيام بها ودعوى أنه لا يستطيع أن يدع المعصية، وقد عنت له وتيسرت له وقد يقول إذا كان الله أراد لي الهداية لفعلت فنقول لمثل هؤلاء ألست في رمضان وأنت صائم تمتنع عن الطعام والشراب والجماع امتثالاً لأمر الله وخوفاً من عقابه؟ كذلك تستطيع أن تمتنع عن الذنوب والمعاصي خوفاً من الله في أي وقت فرب رمضان هو رب الشهور كلها، ورمضان مدرسة لتربية النفوس وتدريبها على الالتزام بأوامر الله والانتهاء عن نواهيه·
خمس خصال في شهر رمضان
ويستفاد من الصيام أيضاً أن هذه الأمة تنفرد عن الأمم الأخرى بأن الله أعطاها خمس خصال في شهر رمضان لم تعط لأمة غيرها وهو ما حدثنا وبشرنا به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى عليه الصلاة والسلام فيقول: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال لم تعطها أمة من قبل، خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطرون، ويزين الله كل يوم جنته للصائمين، وتغل في شهر رمضان الشياطين ومردة الجن، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل وما هي يا رسول الله أهي ليلة القدر، قال لا ولكن الله يجازي العامل إذا وفىِّ عمله"·
وهناك لفتة نستشفها من زكاة الفطر في آخر شهر رمضان لمن أدرك هذا الشهر العظيم ولو ليلة فماذا تعني زكاة الفطر؟
تعني أنه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طهرة للصائم من اللغو والرفث··" وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر الأمة إلى فقراء المسلمين فقال: "اغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" حتى يفرح الصائمون جميعاً غنيهم وفقيرهم ووجيههم وصعلوكهم يفرح الجميع يوم العيد فلا تجد مسلماً حزيناً لأنه لا يجد ما يأكل أو يشرب أو يلبس فكانت زكاة الفطر لتحقيق هذه الأهداف النبيلة·
|
|