التعريف بصاحب كتاب (تعريف الخلف برجال السلف) : أبو القاسم محمد الحفناوي بن الشيخ أبي القاسم الديسي البوسعادي بن سيدي إبراهيم الغول،حياته وأخلاقه :
بقلم الدكتور : صالح بلعيد - باحث في علوم اللغة - جامعة مولود معمّري بتيزي وزّو ( محاضرة حول الكتاب المذكور في ملتقى الشيخ الحفناوي المنعقد بالدّيس في جويلية 2006م)
نصّ في عنوان كتابه: مدرّس بالجامع الكبير لمدينة الجزائر من سنة 1314 هـ/1897 م، ومرجع الإفتاء المالكي بالجزائر سنة 1355 هـ/ 1936 م. ولد في سنة 1882م، ودرس بعدة زوايا، كما مارس الصحافة ؛ حيث كان يكتب في جريدة المبشّر، كما توّلى الإفتاء بعد اغتيال الشيخ كحّول سنة 1936م، وهذا إلى أن وافاه الأجل سنة 1941 م ببلدته الدّيس ، كان يتحّلق بحِلق أبيه حتى أصبح أحد حوارييه بالزاوية، ولمّا أصبح فتى أرسله إلى العاصمة ، فانتظم إلى كّتاب المدرسة الثعالبية وأُنزل مقامًا خاصا احترامًا لوالده، ولكنّ الابن ضرب مثالًا رائعًا في الانتظام ومتابعة الدروس وحسن الإجادة، إضافة إلى السلوك المفعم بالمروءة والوفاء البدويّ الذي هو أصيل في سلالة العائلة ، ونظرًا لفطنته ونباهته وعلمه الغزير، أُتيح له أن يتصدّر حلقات المساجد، فكان يجلس يوميًا للإملاء على زملائه ، ويعمل على الإقراء والتدريس، فصار طالبًا فقيها تقيًا ورعًا يبتغي وجه الله والدار الآخرة، كما أصبح شيخًا كبيرًا له مقامه العلميّ الخاص، وأضحى يستشار في شؤون المدرسة.
وتشير الشخصيات التي سألناها في سيرته على أنّ فرنسا أولته مقامًا عاليًا لتمكّنه من لغتها، ولِما قدّمه من خدمات جليلة للباحثين الفرنسيين، كما ساهم في ترجمة كثير من الأعمال الفرنسية إلى العربية وخاصة تلك التي تتعّلق بقضايا الصحة، حيث ساهم في التوعية الصحية التي كان الفرنسيون يبتغون من خلالها الحد من مرض السلّ الذي استفحل في المستعمرات. كما يشيرون بأّنه رافق الشيخ (محمد عبده) في زيارته للجزائر من ميناء مرسيليا إلى ميناء الجزائر سنة 1903م.
إنّ المكانة التي أولتها السلطات الفرنسية لاعترافٌ ضمنيٌّ علي علمية الرجل، وعلى يده تخرّج كثير من علماء الجزائر، ومنهم العلّامة الكبير صاحب (تاريخ الجزائر العام) عبد الرحمان الجيلالي، وله علاقات علمية كثيرة في البلاد المغاربية، حيث صاحب أفذاذا من مثل: الشيخ (عبد الحيّ الكّتاني) من المغرب صاحب كتاب (فهرس الفهارس) ، والكّتاني كان رئيس اّتحاد الزوايا المغاربية. كما كتب عنه الكثير من علماء الجزائر من مثل (توفيق المدني) ، (أحمد حمّاني) ، وتحدّث عنه الأستاذ (أبو القاسم سعد الله) في كتابه (تاريخ الجزائر الثقافي) وأقامت مدينة بوسعـادة ملتقيين تخليدًا لروحه وعلمه الغزير، وتوجد هذه الأعمال في متحف (نصر الدين ديني) ببوسعادة، بحيّ لومامين ... أما أبوه، فإّنه كان ابن أسرة عريقة في العلم والدين ، تعّلم عنه الابن فنّ الخطّ وعلوم الدين والأدب ، وكان الوالد (الشيخ بن أبي القاسم بن الصغير بن محمد المبارك بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن مرزوق بن سيدي إبراهيم الغول) مؤسّس زاوية أولاد سيدي إبراهيم في الديس، ودفينها شاعرًا وفقيهًا وإمامًا مدبّرًا، وكريمًا لا يردّ سائلًا، ولا يخيّب قاصدًا، رجلٌ صالح وفاضل، بيته مفتوح للفقراء وعابري السبيل، توّفى يوم الثلاثاء 2 صفر 1311 هـ، الموافق يوم 15 غشت (أوت) سنة 1893م.
أخـــلاق الحفنـــــاوي:
من الصعب أن أذكر الخصال التي يتوّفر عليها الشيخ أبو القاسم محمد الحفناوي لقّلة المراجع المؤرّخة للرجل، وما سوف أتحدّث عنه هو استنتاج من واقع كتابه من خلال العبارات التي يوظّفها فهي نابعة من أخلاقه ، ومن شيمه كابن عائلة شريفة ، وبذا رأيت أنّ الشيخ له من الخصال الحميدة ما يستحقّ التنويه، وهذا من خلال:
- الخلــــق الكريــــم:
في مجال الحديث عن السيرة الذاتية للشيخ ، تشير بعض الفقرات إلى أنّ أخلاق الشيخ الحفناوي عزيمة ، فهو كغيره من علماء الديس الذين جابوا البلاد، والذين درسوا في كلّ من زاوية شلاّطة، وزاوية إيلولة، من مثل: محمد الصديق بن أحمد بن سليمان أبي العدل ... الديسي منشأً ودارًا ووفاة، أخذ الفقه في زاوية تاسلنت بأيلولة ... وأما أبو القاسم محمد
الحفناوي، فإّنه الولي الصالح والقمر الواضح، فبركاته ظاهرة، وأحواله باهرة، جمع بين علم الحقيقة والشريعة، وكان من أهل الفضل والعبادة والاجتهاد، ليّن الجانب صبورًا وغيورًا على الدين وصاحب حزم، فمنذ خلق ما نطق بفحش، ولا ضبطت عنه ساعة وهو غافل فيها عن دينه، فهو الولي المستجار الذي بنعمته يستخار، يحثّ على اّتخاذ الأقران واختيارهم، ولا يشمت في الأعداء. فأخلاقه عالية تلهيه عن حبّ الظهور؛ فكان الطفل الصغير الذي يعمل بصمت عمل الكبار، ومن ذلك أضحت شخصيته علامة فارقة في التراجم، حيث دفعه الّنهم العلمي إلى طلب العلم في سنّ مبكّرة، وإلى الاستزادة من التحصيل، فاستمع إلى كوكبة من العلماء المرموقين في شّتى فنون القول، بعدما شدّ الرحال فتنّقل لتحصيل العلم إلى مناطق الوطن؛ حيث زوايا العلم، فأظهر الجدّ والمثابرة في طلب العلم ممّا جعل شيوخه يثنون عليه مرارًا، ومن ذلك استطاع أن يجمع علوم العربية إلى علوم الشريعة، فاهتمّ بالأخبار والأنساب، وسعى إلى الإلمام بشّتى ألوان المعرفة، وما كان ينشد الذيوع والشهرة، فدخل مرحلة الإثارة
المليئة بالجمع بين المتناقضات ومختلف الروايات، فأّنّى له أن يخرج برأي واحد جامع مانع ، ويتمّثل لي كمن يقول في الدنيا بقول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين؛ ولا يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي في ما بقي، وينهى الناس وينتهي، ويأمر بما يأتي، يحبّ الصالحين ويعمل بعملهم، ويستميل الطالحين وليس منهم.
- التواضــــــع:
إنّ التواضع فضيلة العلماء، فالشيخ الحفناوي سنبلةٌ حاملة للحبّ تتمايل لثقل ما تحمل، فهو لا يشمخ برأسه عزوفًا وعروفًا، صاحَبَ المتواضعين وأضحى منهم، ولم يكن سيّدًا حتى تعبّد لهم، فقد جمع بين التواضع والشرف، وكان همّه ثمرة القناعة الراحة، وثمرة التواضع المحبة، وهذه أخلاق العربي القائل:
أميل مع الّذمام على ابن عمّي \\\ وأحتمل الصديق على الشقيقِ
وإن ألفيتنــــي ملكًــــا مطاعًـــا \\\ فإّنك واجــدي عبــــــد الصديقِ
ولقد تمّثل لي تواضعه الكبير من خلال ألفاظه التي جسّدها في مدوّنته : "سبقني بالإسلام والعمل الصالح فهو خير مّني، وسبقته بالذنوب والمعاصي فهو خير مّني " ، كما يستحضر قولهم: " إذا رأيتَ إخوانك يكرمونك فقل نعمةٌ أحدثوها، وإذا رأيتَ منهم تقصيرًا فقل: بذنب أحدثتُهُ ".
- الزهـــــــد:
نقلُهُ لعبارات الزهّاد، وهي سمة العلماء الذين جمعوا بين الورع، وكثير من العلم فيجزي التواضع بالاجتهاد، وهذا ما تدّلنا عليه العبارات المؤكّدة من مثل: " خُلِقَت الدنيا عندهم فليسوا يعمرونها ، وماتت في قلوبهم فليسوا يحبونها" ، "يبيعون ويشترون بها ما بقي لهم" ، "قليلٌ حقيرٌ كلّ ما أنا فيه جنب ثواب الله وجنب عقابه".
- العلــــــــم:
إنّ الشيخ أبا القاسم الحفناوي عالمٌ من الطراز الاجتماعي، فهو ليس من العلماء الذين يرومون التأريخ لحياتهم، بل آثر الآخرين وما كتب عن نفسه، فهو العالم المفتي المترجم الذي أنكر هذه الخصال ورأى أنها تقّلل من قيمته إذا وقع التركيز عليها، فالعالم يتواضع والناس أو الباحثون هم الذين يثنون عليه أو يقدحون، وأراه في كتابه غائبًا في تبجيل نفسه وعائلته، وحاضرًا من خلال علمه الغزير الذي صبّه في معجم شخوصه التي جعلها تتكلّم كأّنها حيّة تملي حياتها.
... يتبــــــــع ...
|
|