مـــن شعـــراء أولاد سيــدي إبراهيــم
المرحوم سي عبد الله – شنّيط – بلحاج
شـــاعر الرقــــائق والحكمــــة
بقلم الأستاذ : إبراهيــم طاهـــري
هو سي عبد الله الملقّب (شنّيط) ابن محمّد بن الحاج بلحاج وابن فطيمة بنت دحمان بن عبد الرحمن ، ولد عام 1897م ببلدة الدّيس ، حفظ ما تيسّر من القرآن الكريم بمسجد سيدي بلـﭬـاسم بن إبراهيم الغول ، وكان لا يبرح مجالس العلم المنعقدة فيه ، درس الإبتدائيّة في مدرسة الذكور التي تأسست حوالي سنة 1885م ، وهي من أولى المدارس الفرنسيّة التي تمّ تشييدها بالمنطقة ، تعلّم اللغة الفرنسيّة وأتقنها وأجاد الكتابة بها بخطّه المتميّز ، مارس الفلاحة وهي مهنة الآباء وشغفهم آنذاك.
أدّى الخدمة العسكريّة في بداية القرن العشرين – مجنّدًا إجباريًّا – وشارك في الحرب العالميّة الأولى (1914 – 1918م) في فرنسا ، عمل بعد عودته الأولى من فرنسا في الجزائر العاصمة ، فاشتغل في شركة فرنسيّة وسرعان ما تبوّأ منصبا هامّا نظرًا لثقافته الواسعة وتمكّنه من ناصية اللغة الفرنسيّة ، واستقرّ بحيّ المدنيّة أين كان يمتلك بيتًا هناك ، وهنالك عاشر العلاّمة المفتي الشيخ محمّد أبو القاسم الحفناوي ، وكان حريصا على زيارته وحضور مجالسه كلّ يوم.
رجع سي عبد الله إلى فرنسا ثانية لكن هذه المرّة ساعيا إلى العمل في فترة الخمسينيات ، وكان من الملتزمين بمتابعة النشاط السياسيّ للحركة الوطنيّة والمشاركة فيه ، كما كان حريصا على تسديد اشتراكاته الثوريّة بانتظام.عاد إلى الجزائر بعيد الإستقلال وآثر الإستقرار ببلدته الأمّ – الدّيس- وعاش حياة البساطة والقناعة.
لم يكن غريبا على سي عبد الله ذاك "التميّـز" الذي حظي به من سعة الثقافة وقوّة الذاكرة ومَلَكَة الشعر وجمال الخطّ ، فهو من نسل عائلةٍ زاخرةٍ بالعلماء والشعراء والصالحين من جهة ، ومن جهة أخرى فقد كان مُحِبًّا كثير الصّحبة والمجالسة لمن عاصر منهم في بيئةٍ كانت غنيّةً بهم ، وهو الذي كان منذ صغره لا يبرح عرصات المسجد العتيق بالدّيس حيث يعكف على الإستماع لدروس المشايخ وعِظَاتِهِم في الزاوية المعمورة ، كما كانت تربطه علاقة صداقة ومحبّة خالصة مع العلاّمة سيّدي محمّد الصدّيق بن أحمد بن الصالح الدّيسي ، وكان مُجَالِسًا ومُرَافِقا لمادحيّ الرسول – صلّى الله عليه وسلّم- : سي الحاج بلـﭬـاسم بقاش والشاعر سي رابح بن صالح ، وحريصًا على حضور مجالس المديح النبويّ.
أمّا موهبة الشعر فقد بدأت معه منذ صغره ونضجت في سنين شبابه الأولى ، فكانت أوّل قصيدة له في بداية الأربعينيات من القرن الماضي ، وهي قصيدة يعرب فيها عن شوقه لابنه البكر (التومي) وللأهل والوطن ، ويصف فيها – بدقّة - الطريق الذي يسلكه "المرسول" الذي كلّفه بحمل رسالته من مدينة (رينيه - Rennes الفرنسية إلى الدّيس ، وهي قصيدة طافحة بالمعاني السامية والحكم والرقائق مطلعها:
ضاﭬـت روحي من ﭬـعادي في "رينيهْ"
همّ الغربة والصّبر ما طـﭬـت عليــــــهْ
ما نرﭬـدش الليل يا خوتي عينـــــــي
ويهدفلي خيال غير نهاتي بيـــــــــــهْ
كان – رحمه الله – من أكثر النّاس زهدًا وورعًا وقناعة ، ومن أكثرهم رزانة وصمتا واتزانا وخدمةً لأهله ، وكان جمّاعةً للحِكَم والأخبار والطّرف والنوادر والآثار باللغتين وحريصًا على تدوينها في كراريس خاصّة – لا تزال موجودة إلى اليوم – كما بدأ في نسخ قصائده وكذا قصائد مجموعة من كبار شعراء الدّيس المُحدَثين والقدامى في تلك الكراريس وهو في فرنسا على ضوء الشموع ، فترك لنا بخطّه المغربيّ المتميّز مخطوطتين من أثمن المخطوطات الأدبيّة في منطقة أولاد سيدي إبراهيم ، ومن العجائب أنّ تلكما الكراستين كانتا الوحيدتين الناجيتين من حريق مهول التهم غرفة سي عبد الله ذات يوم .. ولا تزال آثار ذلك الحريق بادية على أطراف واحدةٍ منهما إلى يومنا هذا ، ولعلّ الأقدار أبت إلاّ أن يصلنا تراثُ رجالٍ كان أكبر همّهم تسجيل مشاعر التعظيم والإجلال للرسول الأعظم –عليه الصلاة والسلام – وحثّ النّاس على التمسّك بالدّين ومكارم الأخلاق.
امتاز شعر سي عبد الله بلحاج – وهو من الملحون – بالتركيز على الرقائق والحكم والتغنّي بأمجاد وأخلاق السلف والحث على الإعتصام بالدّين الحنيف ، كما تنوّع من حيث الغرض ما بين المديح والرثاء والحماسة والفخر والشعر الوطني السياسيّ والشعر الإجتماعيّ والشعر الدّينيّ بالخصوص ، وله أسلوبٌ متميّز : حيث تبدو ملامح ثقافته العربيّة والدّينيّة الواسعة من خلال استعماله للألفاظ الفصيحة والإستشهادات الخاصّة ، وكمثال على ذلك نورد أبياتًا من قصيدته المشهورة (لله يا نفسي) ، حيث يقول في مطلعها :
لله يا نفسي ولوينك هاملـــهْ \\ يا غافلـــهْ
بركــــــاك كثّـــــــرتِ مـــــــن الآثــــــــــــامِ
صلّـــوا علــــى الحبيـــــــب التُهامــــــــــي
بركاك وعلاه تظلّي نشوالــــهْ \\ يا غافلـــهْ
وابليــــــس ساقـــــــــك لـــدار الظــــــــلامِ
بركاك اخطي الطريق اللّي ضالّهْ \\ يا غافلهْ
بركـــــاك اخطـــــــي طريـــــــق اللئــــــــامِ
بالرغم من أننا من الجيل الذي لم يعايش الشاعر سي عبد الله شنّيط – رحمه الله – إلاّ أنّ قصائده - التي كان ولا يزال يتلوها فضيلة الحاج المدني بن عبد الرحمن وكذا ابن الشاعر : سي امحمّد بلحاج في مختلف المناسبات بإيقاعاتها وأشكال آدائها الخاصّة والمؤثّرة – خلّدت ذكر هذا الشاعر الكبير ورسّخت في ذاكرتنا الجمعيّة وفي وجداننا قصائده الرقيقة الزاخرة بمعاني الحكمة والإستقامة ، وهي تعطينا صورةً واضحةً عن ملامح البيئة التي عاش فيها أسلافنا القريبون ، وعن بعض تفاصيلها الأخلاقية والقيميّة بالخصوص.
ويبقى الأمل معلّقا في صدور مُؤلَّفٍ يحوي سيرة هذا الشاعر وديوانه مع دراسة وافية له ، حتى يخرج من دائرة التجاهل والنسيان ، وكي يتعرّف عليه أكثر أبناء منطقته خاصّة وأبناء وطنه عامّة... وسنعمل على المساعدة في ذلك من خلال نشر بعض قصائده المشهورة مع شرحٍ لها في القريب العاجل.
توفي سي عبد الله سنة 1978م - رحمه الله وطيّب ثراه-
صورة نادرة لسي عبد الله شنيط مع ابنه التومي في حدود عام 1945م
صورة لخطّ الشاعر سي عبد الله شنيط في إحدى كراستيه المخطوطتين
سي امحمّد بلحاج ابن الشاعر سي عبد الله شنيط يتصفّح دفتر والده
|
|