03 مواقــف غريبــة حدثــت معــي فـي امتحــان الباكالــــوريا:
... من فضل الله تعالى عليّ أنّه وفّقني للحصول على شهادتي بكالوريا ، أوّلهما كانت في سنة 1992م في اختصاص العلميّ النّظاميّ ، وثانيهما كانت في سنة 2008م ( بعد 16 سنة من الأولى) في اختصاص الأدبيّ الحرّ ، وكانت كلتاهما بتقدير "جيّــد " - ولله الحمد - وقد حدثت معي في الإمتحانَين مواقف غريبة اخترتُ منها ثلاثة :
الموقف الأوّل 01 :
... عام 1992م ، في امتحان الفلسفة حيث كنتُ بصدد نقل أجوبة الأسئلة الخمسة ( في النظام القديم) ، وكان واحدٌ من الحرّاس يرمقني بنظرة اهتمام طيلة الوقت ، وبعد أن خرج غالبية الطلبة ، اقترب منّي وهمس في أذني : " قبل أن تخرج سلّمني مسودّاتك كي نساعد بها زميلتك (المسكينة) " .. وأشار إلى طالبة جالسة في الصفّ الأمامي ، فقلتُ للأستاذ بدون تردّد : " أنا لا أستطيع أن أفعل هذا ، ولن اسلّمك مسودّاتي " ، فامتقع وجه الرّجل وقال لي بنبرةٍ غاضبةٍ: " أنت حرّ " ، ثمّ راح يدور بين الصّفوف وهو ينظر إليّ شزرًا ، فراودتني الوساوس وقلتُ في نفسي : " ماذا لو أراد بي هذا الحارس سوءًا فمزّق ورقتي أو شطّبها؟!" ، ثمّ أنّي طلبتُ مسوداتٍ أخرى وأجبتُ عن بعض الأسئلة بطريقةٍ مختصرة وسطحيّة ، وقبل أن أخرج ناديتُ ذلك الأستاذ وسلّمته الأوراق ، فراح يشكر تارة ويعتذر أخرى ، وقال بأنّ الأمر لا يتعلّق بالغشّ وأنّه مجرّد مساعدة فقط ... للأسف كنتُ أعرف أنّ موقفي كان خاطئا ، لكنّني كنتُ شابّا في مقتبل العمر ، ضعيفًا وخائفًا على مصيره ...
الموقـــف الثانـــي (02) :
... عام 2008م في امتحان الرّياضيّات ، ذلك الذي أكملت فيه الإجابة ونقلتها على الورقة في أقلّ من ساعة واحدة فقط ( وتحصّلتُ على العلامة الكاملة فيها فيما بعد) بحكم تدريسي لهذه المادّة – هوايةً- لبعض طلبة النّهائي في دروسٍ للتقوية ، وفي القسم الذي كنتُ في صفوفه ، كنتُ أرى رجلاً ضخم الجثّة جهوريّ الصّوت ، تنتفخ أوداجهُ ويحمرّ وجههُ كلّما تحدّث ، وكان يحرص على التعرّف على كلّ مَنْ في القاعة ، وألمح في أكثر من مرّة إلى وجوب " التعاون" على حلّ أسئلة الإمتحانات ، وأخبر الجميع بأنّه أستاذ في مادّة من موادّ الإمتحان وبأنّه مستعدّ لتقديم المساعدة حينما يحلّ موعد الإمتحان فيها ، وأنّه يريد بنجاحه في الباكالوريا رفعَ مستواه المعيشي لا غير.
... عندما أكملتُ نقل إجابة مادّة الرّياضيات ، جمعتُ أوراقي وأدواتي وهممتُ بالخروج ، وبينما أنا متوجّهٌ إلى باب القاعة إذا بالرّجل يكلّمني على مسمع الحرّاس قائلا : " صحّيت ، صحّيت هات المسودّات " ، فتعجّبتُ وسألته : " ماذا قلت ؟! "، فقال : " هات المسودّات أيّها (الأعطر)" فرمقته بنظرةٍ حادّة ولوّحتُ بسبّابتي رافضًا ، فقال لي : " هل أنت خائف ؟ لا تخف ، لا أحد سيحاسبك هنا " ، وفي ظلّ عدم تدخّل الحرّاس الأربعة قلتُ له : " أنا لا أخاف من البشر يا سيّدي ، بل اخاف من ربّ البشر" ، فسكت الرّجل ولم ينبس ببنت شفة ، ثمّ التفتُّ إليه وقلتُ له : " يا سيّدي على ما أظنّ أنّك أستاذٌ ومُرَبٍّ ، ومن المفروض أنّك تعرف أنّ الغشّ حرامٌ وأنّك الأَولى بتذكيرنا بهذه المعاني ..." ، فغضب الرّجل وقال لي : " أنت لا تريد أن تعطينا مسودّاتك ، أنت حرّ .. ويكفينا نصائحًا وفلسفة ..." ، ثمّ خرجتُ من الباب وأنا ألوم أحد الحرّاس – الذي لم يَبْدُ مُهتَمًّا - على هذه المهزلة وتساهلهم معها.
المفاجـــــأة :
في الدّخول الجامعي الذي تلا النتائج في تلك السّنة ، التقيتُ بهذا الرّجل في رواقٍ من أروقة الجامعة ، تغمرُهُ السّعادة وهو يحمل ملفّ تسجيله في السنة الأولى الجامعيّة .. !!!!!
الموقـــف الثالـــــث (03) :
... عام 2008 م في امتحان مادّة اللغة الإنجليزية : وُزِّعَت علينا أوراق الأسئلة ، وشرعتُ في الإجابة على ما أعرفه ، وكنتُ أدوّن الإجابات المؤقّتة على مسودّتي استعدادًا لنقلها فيما بعد ، وبينما أنا كذلك إذْ قرع طاولتي واحدٌ من الحرّاس .. ولمّا التَفَتُّ إليه وجدتهُ أحد أساتذتي القدامى في المادّة نفسها ، فتبادلنا التحيّة بهدوء والتقط ورقتي وراح يتفحّصها على عجل ، ثمّ مضى إلى السبّورة وهو يوضّح للطّلبة الترتيب الصّحيح لأوراق الأسئلة وأشار إلى أنّ البعض مخطئٌ في الترتيب ولابدّ من الإنتباه لذلك .. ويبدو أنّه لاحظ ذلك في ورقتي .. ومن الغريب أنّني لم أُعِرْ كلامه أيّ اهتمام رغم أنّه كرّره مرّات عديدة ، فقد كنتُ منشغلا بالإجابة.
.. بعد مدّة مرّ الأستاذ إلى جانبي وبحركةٍ سريعةٍ جدّا رأيتُ ورقة الأسئلة الخاصّة بي تُسْحَبُ وتُعَوَّضُ بورقة أخرى !.. والمفاجأة أنّ الورقة الجديدة التي وضعها الأستاذ على طاولتي كانت مزوّدةً بالإجابات الصّحيحة كلّها ماعدا جزء التعبير الكتابي - Essai- ...أذكر أنّني أحسستُ حينها بارتباكٍ شديد ، ونشب في نفسي صراعٌ مرير ، ورحتُ أتساءل : ما العمل الآن ؟... لقد فكّرتُ في أمرين :
- إمّا أن أرفض ما فعله الأستاذ عَلَنًا ، وربّما كان هذا سيكون محرجًا ومؤذيًا لأستاذي الذي تجمعني به علاقة احترام وودّ كبيرين ، وكنتُ أرى حينها بوضوحٍ أنّه أراد أن يساعدني أو يجاملني في موضعٍ لا يُسمحُ فيه بالمساعدة ولا تنفع فيه المجاملة.
- أو أتعامل مع الأمر الواقع بمبادئي وأخلاقي ، واخترتُ بعد تفكيرٍ طويل الطّريق الثاني ، وقرّرتُ أن أُبْقِي على إجاباتي السّابقة كما هي وأن لا أصحّح أيّ خطأ كنتُ قد وقعتُ فيه ، وأثناء ذلك كنتُ أواصل ارتكاب الخطأ الذي حذّر منه الأستاذ في البداية والمتعلّق بالترقيم الصّحيح لورقة الأسئلة ، حيثُ كنتُ أجيب عن موضوعين في نفس الوقت دون شعور – وهو ما قد يتسبّب في إلغاء إجابة المادّة كاملة والحصول على علامة الصّفر - ... ولذلك استغربتُ حينما وجدتُ أجوبة الأستاذ مكتوبة على وجهين متقابلين من الورقة وظننت أنّ الأستاذ هو المخطئ ، وقد كان لهذا الخطأ العفويّ مزاياه الجيّدة في تحسين نقطتي فيما بعد !.
.. أذكر أنّني كنتُ أنقل الإجابات على الورقة الرسميّة وأنا أدعو الله تعالى أن يوفّقني في الإمتحان الصّعب التالي الذي كنتُ متخوّفا منه وغير مستعدّ له كما ينبغي وهو امتحان مادّة الفلسفة ، إذ لم أراجع حينئذ سوى موضوعين أو ثلاثة وكانت نتيجة الباكالوريا مرهونة بها ، وتمنّيتُ على الله تعالى - برفضي للغشّ في اللغة الإنجليزية رغم قدرتي عليه – أن يساعدني وأن يعوّضني في يوم الغد.
ما حدث بعد ذلك :
- تحصّلتُ على علامة 14 من 20 في امتحان اللغة الإنجليزية ، وهو ما لم أحلم به في يومٍ من الأيّام ، وكنتُ لا اطمع في الحصول على المعدّل حتّى !! .. والغريب والمُضحِك هو أنّ ما نفعني هو وقوعي في خطأ ترتيب ورقة الأسئلة ، وإجابتي عن موضوعين في آن واحد ، وجمعتُ بهذا النقاط السّهلة من الموضوعين ، وكانت الوزارة قد انتبهت للخطأ المطبعي الذي أربك الطلبة واحتسبت إجاباتهم.
- اكتشفتُ أنّ الأستاذ أخطأ في إجابتين على الأقلّ بعد أن قارنتُ إجاباته مع نموذج التصحيح الرّسمي ، والغريب أنّ إجاباتي كانت هي الأصحّ.
- حينما وُزِّعَتْ أوراق أسئلة مادّة الفلسفة في صباح الغد ، رحتُ أقرأها بلهفٍ ، وإذا بالموضوع الثاني هو هو ما تمنّيتُ على الله تعالى أن يكون ضمن الأسئلة ( المشكل الأخلاقي) ، ففرحتُ أيّما فرحٍ ، وحمدتُ الله سبحانه على كرمه وامتنانه ..
صدق رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – الذي يقول : " إنّك لن تدع شيئًا لله - عز وجل - إلاّ بدّلك الله به ما هو خيرٌ لك منه" .