الأستــاذ الكبيـــر : أبـــوداود فضيـــلي بورتريه بقلم الأستاذ : محمّد حميدي السولفاج و عناء الرحلة: ...فضّل أن تكون لقاءاتنا في أقدم أحياء الديس العتيق , في ساحات عريقة كان الإنطلاق فيها دون قيود , حي (الحفرة) و حي (الدشرة) \ ببلدتنا الدّيس \ بذكرياتهما الخصبة حيث نرى و على مقربة منّا رموزا و علامات تجسّد التاريخ بكل معانيه : مسجد (سيدي بلـﭬـاسم) بصومعته الشامخة ، و مراقدُ الصالحين بقبابها ، و مقبرة (سيدي اقويدر) القديمة التي تحوي بين أضلعها سلفنا الصالح...
... هو يفضّل تلك الأماكن لارتباطه بها، حيث يسرد "أرابيسك" من الذكريات كل ألوانها تحمل صورا معبرة عن الحنين إلى الماضي، مؤلمة تارة و مضحكة تارة أخرى، و خيوطٌ من النور تتخلل تلك اللوحات كأنها عودة الروح لتتنفس من عبق التاريخ الجميل و ثنايا الذكريات بكل تفاصيلها الرائعة...
عشق الحرف العربي و لغة الضاد و توغّل في أدغالها و تضاريسها, كتبها بالصمغ على اللوحة وتفنن في تعريق أحرفها منذ كان طفلا فتيا ، ينهض في الصباح الباكر و سي (المسعود بن إبراهيم بن المسعود) المؤذن ذو الصوت الشجيّ يتهيأ للآذان ، وتكون الوالدة -رحمها الله- قد حضّرت القهوة في ذلك الإبريق الحديدي الأزرق.......بضعة أمتارٍ تفصله عن مسجد (سيدي بلـﭬـاسم) يرافقه أخواه، يمسك بيديهما و يخرجون إلى ذلك الشارع المخيف في عتمة الظلام ، و أثناء الطريق يردّدون السور القرآنية التي كانوا قد حفظوها البارحة تحضيرا لعرضها على شيخ الكتاب سي (أحمد بن امحمّد العالم الكفيف) \الإبراهيمي\ الذي يتحسّس و يعرف الأطفال من الكلام و الرائحة ، يجلسون في (المعمّرة) \جزء من المسجد خاص بالتعليم القرآني \ويفترشون الأرض ويتلذذون بشيئ من الدّفء من نار الموقد.. كان دائما يحبّ التقرب من شيخه لأنه كان يوليه اهتماما خاصّا دونًا عن أقرانه لتفوقه في الحفظ و قراءته الصحيحة للقرآن الكريم و قد توسم فيه النبوغ و الذكاء...ينصرفون من الكتاب ليلتحقوا بالمدرسة الرسمية و مسافةٌ أخرى....
يتأبط تلك المحفظة البلاستيكية السوداء و هو يردّد أثناء الطريق ما كان قد حفظه في الكتّاب ...مكانُهُ في المقاعد الأولى لقصر قامته و ليتسنى له متابعة الدرس بدقة ،كان الوحيد الذي يسبّب حرجا للمعلم أثناء شرحه للدرس بسبب فضوله و تطلعه الزائد. ..كان فتًى عاملا و نشيطا يساعد والديه عند عودته من المدرسة و في أيام العطل.. والدهُ يملك طاحونةً للقمح والحبوب لصيقةً بالبيت العائلي ، فيكلّفه بأعمال بسيطة كأن يجمع حبات القمح المتناثرة في القاعة ،وأثناء جمعه تلك الحبيبات يستمع لحكمة والده سي( دحمان) -رحمه الله- و هو يتكلم عن الميزان و كيفية الحفاظ على الأمانة و عن حاجة الناس لتلك الحبيبات في وقت لم يجدوا ما يسدّون به الرمق في فترة ما بعد الإستقلال.
كانوا يسمونه (فيثاغورس عصره) و يشبهونه (ببرنارد ريمان) لتمكنه من حل كل مسائل الرياضيات رغم صغر سنه... يطالع دون توقف إلى درجة الإدمان ويقرأ كل كتاب تقع عليه عيناه وخاصة تلك التي تتعلق بالتاريخ الإسلامي وعصر التدوين في عهد الدولة الأموية الزاخر ,، تأسست كل معارفه العلمية والثقافية انطلاقا من حفظه لنصف القرآن الكريم ، فاستمدّ قوة خارقة في استعماله للّغة العربية.
الشيخ الرّحماني بن الفضيل و عين البيضاء و المتاع الفكري: محطّةٌ هامةٌ و فاصلةٌ في تحوله الفكري و بداية مشوار آخر و دخوله دهاليز السياسة و تاريخها المتشعب ، باحتكاكه بأحد ركائز الحركة الوطنية و أحد مؤسسي حزب الشعب الجزائري (فضيلي الرحماني بن الفضيل) ابن أخ العالم الجليل (سيّدي دحمان بن السنوسي) الرجل الثائر و فتيل ثورة المقراني بالمنطقة، فتشبع بتاريخ الجزائر من منابعه الدافقة و لم يبخل عليه سي الرحماني و أمدّه بمعارف أخرى تتصل بالثقافة و الفن.
(السولفاج) شق آخر .. و علاقة الآلة الموسيقية بالروح و الوجدان و تلك النغمة بآلامها و أفراحها ..عند دغدغة الأوتار أضاءت له زوايا مظلمة كان يتوق لمعرفتها .. بفطنته الفطرية اختصر مسافات طويلة و رحلة شاقة في عناء البحث باغتنامه تلك الجلسات الممتعة في (عين البيضاء) \حارة أهله وعائلته\ بكل توابلها الأدبية و الفكرية و تلك الحميميّة في تناغم الأفكار رغم الفارق العمري بين الشيخ و الفتى ، لقّنه المدوّنة الموسيقية و ميلاد اللّحن، فتلقحت تلك المعلومات المجزأة لديه بخبرة الموسيقيّ الأوبراليّ و عنصر الأوركسترا الباريسية بوضع قدم ثابتة في عالم الفن و الفكر.
إنّــــــه:
المثقف و المفكر الأديب الأستاذ:
فضيلي بوداود بن دحمان بن بوداود من مواليد 1955 بأولاد سيدي ابراهيم ، زاول تعليمه الإبتدائي بالدّيس ودرس المرحلة المتوسطة و الثانوية بثانوية (الغزالي) و التحق بثانوية (زيري بن مناد) بعد تدشينها ، نال شهادة البكالوريا بتفوق و التحق بجامعة (باب الزوار العلمية) بعد سنتين انتسب إلى المعهد العالي لتكوين الأساتذة و تخرّج منه بتفوق و اشتغل بالتدريس في عدة مؤسسات إكمالية, لم تكن رغبته في التوقف عن الدراسة و لكن ظروفه العائلية أجبرته على دخول الحياة العملية، ترقّى إلى منصب مدير و تنقل إلى عدة و لايات من الوطن و منها رُقِيَ إطارًا بمديرية التربية بولاية (سطيف) ، ثمّ رقّي إلى رتبة مفتش وطني للتربية والتعليم مكلف بناحية الشرق و هو يزاول مهمته إلى الآن.
أنشأ (الصّالون الأدبي و الفني) \بالدّيس \ منتصف السبعينات فكان منبرا فكريا استقطب كل الأدباء و المفكرين و الفنانين بالمنطقة و كان ملاذا للمتعطشين من الشباب المثقف ومحطة هامة للنهل من شهد الفكر و الأدب و الفن وصقل المواهب الشابة ، و كان من ثمار هذا الصالون أدباء و مثقفون من الطراز الرفيع نذكر منهم الأديب المتألق الأستاذ (خالد بن صالح) الذي يعتبر نجما من النجوم اللامعة في سماء الأدب.
أنشأ فرقة موسيقية للفنّ الملتزم بداية الثمانينيات فلقب (بمارسيل خليفة الجزائر) عبر من خلالها عن الجرح العربي الدامي و الإختلاف الفكري والإيديولوجي المستشري و القضية الفلسطينية ، فكان قلما حصيفا و صوتا صادحا على الركح ... زار بعض العواصم العربية ففتن بفيينّا الشرق (لبنان) قلب الأمة العربية النابض ، وتزود بمعارف هامة من شموس الفكر و الأدب،
التقى بأدباء كبار و فنانين أمثال (مارسيل خليفة) الذي تجمعه به علاقة صداقة متينة .. تنقل إلى عدة عواصم أوربية نذكر منها (لشبونة) و (باريس) و(مدريد) أين استمتع بعجائب الأندلس و فن عمارتها العربي الاسلامي و قصر الحمراء الخلاب ووقف على التزاوج الفكري العربي الأوربي.
.................................انتهت الرحلة و لم ينته السفر.
(بوداود) الانسان ننتظر منه....لحــــن أمـــــــل ...
الأستاذ ابوداود فضيلي يتوسّط الأستاذ خالد بن صالح (على اليمين) والأخ زكريا بومهدي :