مـــن يتذكــر سيـــدي ابـراهيـــم...؟منقــــــول عن : Fawzi Saballah
22 août 2012, 18:30الذين يعرفونه ويعرفون ماضيه قلة قليلة تُعَدُّ على الأصابع من عيار الشيخ عبد الرحمن الجيلالي وإمام الجامع الكبير الشيخ بن يوسف أوالشيخ بكير مسَّكْجي. أما الذين يجهلون كل شيء عنه فإنهم يُقدَّرون بالملايين من الجزائريين.
عجائز القصبة العريقات، "بنات القاعْ والباعْ" كما يُقال، لا يكدن يعرفن عنه سوى اسمه: "سيدي ابراهيم البَحْري" وضريحه المُحاط بنخلتين عتيقتين تسهران على راحته منذ قرون، وبركاته التي تَعَوَّدْن على طلبها عند الزيارات الموسمية والطارئة مُحمَّلةً بالصدقات والقَرابين وملحقاتها...
اليوم، سيدي ابراهيم الذي كان رياس البحر الجزائريون لا يتحركون من المرسى إلا بعد "استئذانه" وتَحيَّته في ضريحه بعد الدعاء بالنصر للبحرية الجزائرية في غزواتها، أصبح نكرة في ذاكرة سكان جزائر بني مزغنة. خطـأُ مَنْ...؟ رُبّما "المَكْتوبْ"...!
بدايــة المغــامــرة كان سيدي ابرهيم الغبريني البَحْري السَّلامي كثير الرحلات والأسفار، تستهويه المغامرة والاكتشافات وطلب العلم. لذلك قادته هذه الهواية، وربما قضاؤه وقدره، من بغداد دار السلام، التي أعطته لقبه "السَّلامي" والتي يُقال إنه كان حاكماً بها، إلى إزمير بتركيا.. ثم إلى أرض جزائر الغرب التي كانت تعيش ثورة عميقة ومخاضا عسيرا في هذه العقود الأولى من القرن 16م. لم يكن وحيدا في هذه الرحلة التي كانت بلدة بني مزغنة أولى محطاتها، بحيث تقاسم معه مَشاقّها صديقان عزيزان، تُرْكِيَا الأصل مثله، هما من سيشتهران مُسْتقبلاً بـ: سيدي الوليّ داده، صاحب الضريح المجاور لسيدي عبد الرحمن الثعالبي، وسيدي محمد بوفالة، دفين مدينة المسيلة.
أسفاره الكثيرة وتنقلاته في أرض الله لم تُشْفِ غليله وفضوله، ولم تنجح أيّ مدينة أوقرية أو واحة في دار الإسلام في ترسيخ قدميه على تربتها وتحقيق مبتغاه الذي قد لم يكن هو نفسه يدرك ماهِيَتَه، كما قد يكون صِغْرُ سِنِّه مقارنةً بالولي داده وسيدي محمد بوفالة سِرّ هذه الطاقة المتفجرة في أعماقه. فواصل ترحاله، بعد استراحةٍ في فنادق ودِيار بني مزغنة، باتجاه الصحراء..، لكن في هذه المرة كان وحيدا.. دون صديقيْه اللذين جاءا لتوديعه عند باب عزون..،حيث التحق بالقافلة التجارية الكبيرة التي كانت تتأهب للرحيل نحو عمق البلاد، بل وحتى إلى بلاد السودان حيث مملكة مالي والنيجر...
لقيت الصحراء التى جابها طولا وعرضا هوًى في نفسه قبل أن يطيب له المقام في مدينة تْواتْ التي كانت مركزا تجاريا وثقافيا لامعا آنذاك في نهاية القرن 15م. غير أن واحة توات بِعَرَبِها وبَرْبَرها وزُنوجها ويهودها ومسيحييها الأوربيين، مثل الجنْوي أنطونيو مالْفانْتي، وعلمائها وتجارها القادمين من مختلف النحل والملل، ومن مختلف أصقاع العالم، فتحت شهيته بتنوعها وثرائها الثقافي لاكتشاف عالم الأفارقة السود والقيام بالدعوة لدين الله هناك كما فعل قبله الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي. لهذا سرعان ما تركها متوجها إلى تومْبوكْتو ضمن قوافل الملح والذهب والتوابل وخردوات أوربا التي لم تهدأ حركتها بين ذهاب وإياب في الصحراء الكبرى إلا في نهاية القرن 19م وبداية القرن 20م. فجأة تنقطع أخبار سيدي ابراهيم في كتب التاريخ التي بقيت حتى اليوم عاجزة على اقتفاء آثاره، لذلك بقيت مغامرته الإفريقية مجهولة قد نعثر في يوم من الإيام على بعض حلقاتها في مخطوطات الزوايا التواتية بتقرت وغيرها من الواحات... لكن بعد عودته من بلاد السودان، سوف نصادفه مقيماً في مدينة بوسعادة إقامة دائمة في هذه المرة.. إقامة سعيدة... بوسعادة التي غيّرت مجرى حياته ألى الأبد...
غير أنه لا يُعقل أن تكون هذه الواحة قد استطاعت بمفردها أن تُحْدِثَ كلّ هذا المفعول في نفسه رغم ما اشتهرت به من جمال سوف يقع في أسره حتى الفنان التشكيلي الفرنسي إيتيان دينيه (Etienne Dinet) هو الآخر بعد 4 قرون قبل أن يُصبح ناصرالدين دينيه بعد إسلامه.
في الحقيقة هناك ما هو أجمل من بوسعادة في بوسعادةِ ذلك الوقت...: إحدى بنات سيدي سليمان بن ربيعة، أحد "شُرْفَة" علي سعادة (أو بوسعادة)، الذي ستحمل الواحة اسمه إلى اليوم، وقد تَزَوَّجَها سيدي ابراهيم وسعد بعيشه معها وطلّق من أجلها حياة التّرحال.
في يوم من الأيام، بعد أن طاب له في هذه الواحة المقام، قرّر أن يحج إلى مكة المكرمة وكانت زوجته حاملا.. فأوصاها إن جاءها المخاض ولم يرجع بعد عام أو حدث له مكروه وكان المولود صبيا أن تُسَمِّيه ابراهيم مثله... لكن لم ُيكتب للأب أن يرى صبيه أبدا وإن كان قد حمل اسمه نزولا عند رغبته... الصبي الذي سوف يصبح يتيم الأم بعد فترة قصيرة من ميلاده، ليكبر ويشبّ في كنف أخواله، وخاصة في كنف والدة سيدي عيسى بن مْحَمَّدْ، ويشتهر في المستقبل بـ: سيدي ابراهيم الغول المدفون حاليا في بوسعادة بمنطقة أولاد سيدي ابراهيم. لكن لماذا "الغول"..؟ لأن حياته أحيطت بالعجائبية والكرامات كما كان يقول أتباعه في المنطقة آنذاك. وقد أنجب ثلاثة أطفال أصبحوا هم الآخرين أولياء صالحين، وهُم: سيدي مْحَمَّدْ، سيدي التُّواتي وسيدي رابح الذين سيتشكل من نسلهم مَنْ سيُعرفون بـ: قبيلة سيدي عيسى المعروفة إلى اليوم في منطفة بوسعادة. أما الشريف الزهار فقد كتب في عام 1956م بأن أشهر ذريته هو "العالم الكبير الشيخ أبو القاسم الحفناوي المفتي المالكي بمدينة الجزائر(1850م-1942م)" ويضيف له الشيخ عبد الرحمن الجيلالي شخصية أخرى لامعة تتمثل في الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي الفقيه ومُجَوِّد القرآن الكفيف (1854م-1921م).
سيدي ابراهيم البَحْري و... ذاكرة النسيان ترك سيدي ابراهيم الغبريني السلامي إذن واحة بوسعادة، التي تَجَمَّع أهلُها حول بئر ومسجد عتيق يُدعى الجامع القديم أو جامع النّخلة، وتَوَجّه إلى مدينة جزائر بني مزغنة التي لم يرها منذ سنوات طويلة، منذ عبوره بها برفقة صديقيه الولي داده وسيدي مْحَمَّدْ بوفالة، لركوب البحر منها نحو البقاع المقدسة. غير أن بني مزغنة سالم التومي والثعالبة لم تَعُد كما كانت عندما تركها، إذ كانت تَتَعَثْمَن شيئا فشيئا على يد الأخوين بربروس وتتأهب للتخلص من التهديدات الإسبانية. فقد تصادفت رحلته مع غليان عسكري - سياسي واضطرابات عنيفة في المدينة تسببت فيها النزاعات الداخلية على النفوذ، وعملية تحرير حصن البنيون من الإسبان. هنا أيضا تتلعثم المصادر التاريخية ولا تقل شيئا ذا أهمية حول سيدي الغبريني. غير أنه يبدو من المحتمل جدا، استنادا إلى رواياتٍ من بينها رواية سيدي محمد بن علي الخروبي الطرابلسي أحد علماء "المحروسة" في القرن العاشر الهجري المُتَوَفِّي سنة 963هـ، أنه حمل سيفه ليجاهد إلى جانب خير الدين، الصَّديق الذي يكون قد التقاه في يوم ما في بغداد عندما كان حاكماً عليها... وشاءت الأقدار أن يموت دون أن يتحقق حلمه في زيارة الحرمين الشريفين، إذ توفي شهيدا في سبيل الله بالقرب من المرسى في عملية هجوم خير الدين على حصن "البنيون"، فَتَمَّ دفنه في نفس المكان الذي لفظ فيه آخر أنفاسه قبل أن يقيم له البيلرباي، الذي يبدو أنه كان يعرفه ويُقَدِّر عِلمَه وصلاحه، ضريحا وقبة ومسجدا. الضريح الذي كان من أبرزأئمته سيدي الشيخ الحاج علي بونا دالي، التركي الأصول، حزَّاب وإمام الجامع الجديد في وقتٍ ماَ قبل أن يذهب للحج بالبقاع المقدسة على متن زورق شراعي ويعود ليتولى الإمامة بضريح سيدي ابراهيم البحري، وقد مات عن عمر يناهز المائة سنة. فاقت شهرة سيدي الغبريني منذئذ كل الحدود في جزائر بني مزغنة وسَهْلِ المتيجة بعد وفاته، وأصبح وليا من الأولياء الصالحين يقصده الزوار من كل حدب وصوب بالهدايا والقرابين... ونال عند أهل جزائر بني مزغنة لقب "مولى البحر" أي سيّد البحار حسب تعابير ذلك العهد. ونَسَبت إليه الأساطير الشعبية كرامات وقدرات ميتافيزقية غير عادية، بل عجيبة، في مجال البحار والمحيطات، لم تُنسب لغيره من الأولياء والصالحين، جعلته في هذا "التخصص" أكثر فعالية من سيدي عبد الرحمن الثعالبي نفسه.. و ما أدراك ما سيدي عبد الرحمن...
لهذا السبب كان الحجاج إلى وقت قريب لا يجرأون على الإبحار نحو البقاع المقدسة دون زيارته. أما البَحَّارة الجزائريون فلم يكونوا يبادرون إلى أي مشروع بحري أو غزوة ضد جنوب أوربا إلا بعد التزود ببركته والصلاة في قبته.
أجرى الاستعمار الفرنسي بعض التعديلات على هذه الأخيرة شوَّهتْ شكلها الأصلي، لكن النخلتين المحيطتين به لم يمسسها بسوء. كما لم تتعرض "عين سيدي ابراهيم" الجميلة لمكروه، لحسن حظها، وهي موجودة إلى اليوم بالمرسى العتيق قرب الضريح وقد ذكرها بافتتان الأسير الأمريكي جيمس كاثكارت في نهاية القرن 18م في مذكراته واصفا ماءها بأنه كان من أعذب ما شرب من ماء في حياته، الماء الزّلال الذي كان أول ما ذاقه في جزائر الغرب عندما رستْ به السفينة الأمريكية التي أُسِرَ على متنها.
سيدي ابراهيم الغبريني الذي نسيه أهله ويجهله اليوم معظم سكان مدينته، بل معظم الجزائريين، مازال موجودا إلى اليوم بالمرسى بالقرب من القاعدة العسكرية البحرية كما كان بالأمس في عهد رياس البحر. لم يتخلَّ عن "المحروسة" حتى عندما تركته هي وحيدا مهمشا لا أنيس له سوى هدير أمواج البحر، وصخب الصيادين ومحركات القوارب عند عودتها من البحر مع طلوع الفجر. وربما ذكريات مجدٍ بعيدٍ نائم في أعماق التاريخ، وذرية صالحة من الأولياء المنتشرين في منطقة بوسعادة وغيرها، المجد الذي لم يبق منه سوى الأصداء التي سجلها المستشرقون والرحالة الأجانب والديبلوماسيون وأسرى الدايات والباشوات من لوجيي دو تاسي وهنري كلاين إلى جيمس كاثكارت و القنصل ويليام شيلر. غير أنه ترك غَصَّة في حَلْقِ كلّ الذين اطَّلعوا على حكايته ولغزاً مايزال يشغل بعض الأذهان..؛ مَنْ هو سيدي ابراهيم أو"بْرَاهَمْ" الغبريني دفين أحد أضرحة مدينة شرشال والذي لايزال نسله، أي آل الغبريني، بالمنطقة يُطلق عليهم: "أولاد المْرابطْ" أو"دار المْرابط"...؟ هذا ما سنترك الجواب عليه للذين يملكون سِرَّه، مع تنبيههم إلى أن قائمة أخرى من الغُبرينيين الأولياء الصالحين تنتشر في عدة مناطق من البلاد... وأَجْرُهم على الله...
Article que j ai publie en 1998/1999 a Alger
هذا المقال نشرته عام في مدينة الجزائر
1998/1999
Encore tout jeune, je la vois je me le rappelle,
le mausolé de Sidi Brahim à la darse de l’amirauté,
Ouvrant les pans de son burnous pour bénir
Toutes les vièrges de la cité.
Brahimi Himoud ( Momo